بعض ما يجري على هامش الإبادة هو أكثر إثارة ربما للنفور أو التقزز أو حتى للغضب. من يريد أن يستمر في الحياة كما كانت بروتينها، بل ببلاهتها، فهو حُر طبعا، بل يملك كامل الحرية في أن يغلق ما يستطيع من النوافذ المُشرعة عبر شاشات صغيرة أو كبيرة أو ما بين بين.

وإذا ما تطفّل عليه أحدهم أو تسرّبت خلف نافذته، أقصد شاشته، صورة لبقايا بشر، فهو حر أن يذرف دمعة وربما يعمل «ريتويت»، أي إعادة تغريدة، ومن ثم يكمل ما كان عليه من خطط ليوم باهت آخر.

Ad

كل فرد حر بأن يتعامل مع الحدث كما يشاء، ولكن ألا يبدو أن ما تقوم به بعض المنظمات الدولية مثير للأسئلة الغاضبة، رغم تعاطف البعض معهم وتفهمه للوضع الصعب الذي هم فيه.

فهناك، كما قيل وردد كثيرون منهم، حقوق للطفل والمرأة والبشر، وهي ملزمة لكل الأطراف حتى في ظروف الحرب، وهنا ربما هم حائرون، لأن التشريعات الدولية لم تذكر شيئا عن دورهم في أوقات الإبادة إلا ربما أن يستمروا في «نفس الفعل»، وهو تحويل الأسماء إلى أرقام وإحصاءات ثم نشرها، ربما لاستثارة العطف والشفقة والتضامن وطلب الدعم المادي طبعا طبعا، فهو الهدف الأسمى، ودونه تتقلص مهماتهم حتى تتلاشى، وينظم كثيرون منهم طوابير الباحثين أو العاطلين من العمل!

كل هذا يحاول العاملون معهم أو القريبون منهم أو حتى المتابعون لدورهم ومهماتهم، يحاولون أن يتفهموه، ومنذ أكثر من عشرة أشهر والجميع يتعاطف معهم أمام مهمتهم المستحيلة في ظل تعنّت الصهاينة وإصرارهم على الإبادة حتى آخر طفل، حتى لا يكبر فيصبح مقاوما، كما يقولون هم في مطبوعاتهم وإعلامهم.

ولكن أن يتطور الأمر ليخرجوا على الإعلام بشكل يومي مكررين الحاجة إلى تطعيم الأطفال في غزة، وإلا فقد يتعرّضون للموت، فهذا أمر يدعو للسخرية أو للغضب أو يبعث على الغثيان.

ففي تلك اللحظة التي يعلن فيها المسؤول الكبير، أو الناطق الرسمي أو المدير المحلي أو الإقليمي، في مؤتمر يحضره جمهرة من الصحافيين والصحافيات، أن منظمته والمنظمات الأخرى بحاجة ماسّة الآن إلى تطعيم الأطفال في غزة قبل فوات الأوان، تكون الصواريخ قد دكّت ما تبقى من حجر يستر جسدا، أو خيمة تتراكم تحتها العائلات، أو مدرسة أو جامع أو كنيسة أو بقايا منزل. تتوالى الصواريخ الحاملة لأسلحة «حديثة جدا»، وما هي سوى دقائق حتى تتحول الأجساد إلى أكوام من اللحوم يقوم المسعفون - إذا استطاعوا الوصول لها بعد ساعات أو أيام - بجمعها في أكياس وتوزيعها حسب «كمية اللحم المتبقية» ما يتصورون أنه طفل أو امرأة أو رجل.

ينهي المسؤول مؤتمره الصحافي من دون أسئلة من الصحافيين، فقد طُلب منهم أو قيل لهم أو حتى تعلموا ألا «يحرجوا» المسؤولين في هذه المنظمات بالأسئلة المستعصية، مثال على ذلك «ما جدوى أن تطعّم الطفل الفلسطيني ليعيش للحظات أو ربما ساعات قبل أن يستشهد مع عشرات بل مئات غيره؟»، وهل يقي التطعيم من الجدري أو الحصبة أطفال فلسطين ولبنان من الموت المحتم بالأسلحة «الذكية»؟!

كيف تقنع الأم الفلسطينية، إن لم تكن قد استشهدت وأصبح طفلها تحت عناية أخيه أو أخته الأطفال أيضا، بأن عليه أن يتطعم، وهو يبحث عن كسرة خبز أو قطرة ماء، وتقنعه أن التطعيم مهم لحمايته من المرض، بل الأمراض أو الموت، وهو يعرف أن الجوع والعطش والصواريخ قد قتلت أحمد وفائزة وهشام وفاطمة وليلى.... وووو... وكثير من الأصدقاء والإخوة؟!

كيف تقنع الأم، أو من يقوم بدورها، بأهمية التطعيم وهي تدير بوجهها حتى لا تطاردها العيون البريئة المحملقة بخوف، والقابضة على طرف فستانها أو عبايتها؟ عيون الأطفال أكثر وضوحا من الكلمات، وترسل أسئلة أكثر قسوة من أن يرى الأب أو الأم أطفالهم يجرون سريعا في حالة من الرعب والطائرات والدبابات تلاحقهم حتى الى صدر أمهم.

لا أحد ينكر أن السابع من أكتوبر 2023 قد كشف الكثير من العورات والعجز والتواطؤ.

وخلال عشرة أشهر بقيت المنظمات بجيوش من الموظفين والعاملين والآليات والمعدات وملايين الدولارات من التمويل واقفة عند حاجز تنتظر أن تتقدم، وإذا ما حصل فإن ما تدخله لا يسد جوعا أو عطشا أو يقي من نزيف الجروح بأوجاع لا يتحملها البشر، حتى ترفرف أرواح الشهداء لترحل إلى السماوات، حيث هي بيتهم الحقيقي لمثلهم من الملائكة.

ماذا يفعل التطعيم بطفل؟ إما فقد كل أسرته أو أطرافه أو هو في انتظار موت قادم لا محالة؟ أليس من الأفضل أن ترسخ المنظمات وتجمع كل مجهودها وما تملك من قوة وترفع الصوت «أوقفوا قتل الأطفال»، أو أن تنقل المصابين منهم الى مستشفيات توفر لهم ربما بعض أمل في الحياة، بدلاً من الاستمرار في عقد نفس الندوات، ورفع الصوت لتنفيذ خطط وضعت على مدى سنين، وكأن كل هذا الموت والإبادة لا يمران عبر مكاتبهم أو برامجهم... أو أو أو...؟!

* يُنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية