في عام 2018 كتب سليمان الفارسي مقالاً بحثياً بعنوان القبائلية والدولة الريعية (أترجم هنا بعض فقراته)، يقول فيه إنه حدث في العقود الأربعة الأخيرة أن شرعية الدولة الريعية في النظام العربي أُسست على عقد اجتماعي ضمني بين الأنظمة الحاكمة والجمهور، في إطار هذا العقد يقوم النظام الحاكم بتوفير العمل المريح والدعم الاجتماعي للسكان من دون فرض ضرائب مباشرة، مقابل هذا الكرم من النظام الحاكم يتم ضمان سكوت الشعوب عن المطالبة بالأشكال الديموقراطية.

كان أساس الأفق السياسي في المجتمع القبائلي يقوم على الشرعية القبلية التي تعادي كل أنواع السلطة المركزية، حتى لو كانت وليدة من شكل ديموقراطي، وبهذا لم تكن هناك حاجة لقيام أحزاب سياسية كقاعدة أساسية لقيام أي نظام ديموقراطي حقيقي، فالأحزاب عادة ما تنهض على بنى طبقية، وهذه الأخيرة لم تكن متوافرة، فقد تم ابتلاعها بهيمنة الثقافة القبلية، وكان اكتشاف النفط وتصديره عاملاً لتهميش القوى القبائلية المجتمعية، وتأكيد استقلال الأنظمة الحاكمة بعدم حاجتها للشرعيات القبائلية، وبهذا تم تثبيت العقد الاجتماعي الجديد، وقوامه أن الدولة تقوم بكل ما يحتاجه الأفراد مقابل ضمان صمتهم وعدم اكتراثهم للتمثيل الديموقراطي والأحزاب وخلق وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني.

Ad

هيمنة الدولة (الدولة هنا السلطة الحاكمة التي تمتلك مصادر الثروة الطبيعية) على معظم مصادر الحياة، وخصوصاً الإعلام (الميديا)، الذي حددت مهامه بالارتزاق من أريحية النظام وكرمه لضمان تبعيته، مقابل قيام هذا الإعلام بالتطبيل المتواصل للأنظمة، فلا يوجد إعلام حقيقي إخباري تحليلي نقدي غير صور مكررة لرموز اجتماعية مستهلكة في أفراحها وأتراحها، ومقالات ضحلة محشورة بين سقف الرقابة والخوف من عصاها القاسية، مع تزاوجها بفكر سطحي لأصحاب الرأي الباحثين عن «الجمهور والسلطة عاوزين كده».

الآن تغيرت الأمور، النفط مصدر قوة الدولة، والنظام أخذ بالتراجع مع تدنّي أسعاره وبروز الطاقة الشمسية والكهربائية، مع مخاوف تدهور البيئة، وأضحى على السلطات الحاكمة أن تبحث عن بديل للشرعية الريعية، لكنها ترى أن مثل هذا الأمر يعني إضعافاً لسلطتها الاستئثارية للثروة واحتكار السلطة، ماذا تعمل هذه السلطات بعد أن انكمش الريع وأخذت الجماهير الريعية تجأر بالشكوى، وهذه هي البداية؟ يفترض أنه لا حلول لهذا الواقع الجديد إلا بالتسويف والوعود بالتغيير والنهج الجديد، وهي تعلم أنها لا تملك تاريخياً الثقافة والوعي للخلق والإبداع لمواجهة التغيير في الظروف الاقتصادية الجديدة وخلق الإنسان المنتج، فلا يبقى غير العصا الحديدية لتسيير الأمور كما كانت، مع أنها لم تعد كما كانت، فالكون يتمدد.