عرفت الكاتب والمفكر فواز طرابلسي منذ أيام مجلة الحرية في بيروت ومنظمة العمل الشيوعي، لقربي منها والمنتسبين إليها، أمثال الزملاء: سعد محيو ووضاح شرارة وجوزيف سماحة وجورج ناصيف وآخرين.
وبعد استقراري في الكويت منذ عام 1976 لم يعد هناك تواصل، بل أتابع ما يكتب وما ينشره من إصدارات ذات قيمة فكرية وثقافية عالية، من اليساريين القلائل جداً في العالم العربي الذين راجعوا تجاربهم واعترفوا بأخطائهم وأين فشلوا.
في كتابه الأخير «زمن اليسار الجديد» والصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر عام 2023، والذي يحمل الرقم 24 في سلسلة مؤلفاته، أفرغ تجربته في تنظيمين من تنظيمات اليسار الجديد وهما «لبنان الاشتراكي» و«منظمة العمل الشيوعي».
في هذه الشهادة كشفُ حساب بوضعه المالي خلال العمل الحزبي، وبالمناسبة هناك «مناضلون وقياديون» ومن المحسوبين على اليسار والقوميين العرب يقضون ما تبقى من حياتهم في قصور الأغنياء في إيطاليا وسويسرا وفرنسا، وهؤلاء أثروا على حساب الجماهير المغلوبة على أمرها والشعارات التي سقطت على الأرض.
أفضى، بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الأخلاقية، بالقول إن ضميره ليس مرتاحاً على العموم، فمن يشارك في حرب أهلية، ومن موقع المسؤولية، لا يحق له أن يقول إن ضميره مرتاح... سكت عن تجاوزات وجرائم في الحروب اللبنانية، كما في مسار المقاومة الفلسطينية وحكم اليسار في جنوب اليمن، يعترف بأنه كان لزاماً عليه معارضتها والتنصل منها واستخلاص السلوك العملي بناءً عليه، لكنه لم يفعل.
وفي وقفة تاريخية مع النفس أبدى أسفه لأنه لجأ أحياناً، عندما كان في موقع القيادة، إلى إجراءات تنظيمية وتأديبية نزقة ضد رفيقات ورفاق عبّرت عن ضعف الحجة وضيق الصدر في النقاش.
لقد مارس فواز الطرابلسي المؤرخ والأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، الماركسية فكراً وعملاً، أكثر بكثير مما كتب عنها، ويعلن وبجرأة أنه يضع نفسه قيد المحاسبة على المنتج، لذلك يواصل مساهماته في تجديد يسار لبناني وعربي ومن ثم توحيده.
لم يكتف بالسرد، كما يقول، بل توقف لمراجعة محطات ومنعطفات أساسية في الحياة العامة في لبنان والمنطقة، وانتقاد ذاتي لمفاهيمه ومواقفه خلال تلك الفترة.
خلاصة التجربة، وهذا هو الأهم، ما تعلمه من دروس الحروب الأهلية والتي أوردها في ستة استنتاجات، عصارة خبرته وهي كما يلي:
1- لا يمكن فرض الإصلاح بالقوة والسلاح، ولو كان في مصلحة من يفرض عليهم، في المجتمعات ذات الانقسامات العمودية الفاعلة، يؤدي فرض الإصلاح بالسلاح إلى النتيجة العكسية، بزيادة التحام تلك المجتمعات المفروض عليها الإصلاح فرضاً ويحمل خطر الاقتتال الأهلي والاستنجاد بالخارج.
2- تستدعي الحروب الأهلية التدخل الخارجي العسكري، غالباً ما يفقد الطرفان الداخليان السيطرة على مسار الحرب، كما على مصيرهما، والكاسب الأكبر هو الخارج.
3- يرُد النزاع العسكري البشر إلى الانتماءات والولاءات الأولية – إلى العائلة والطائفة والإثنية – على حساب أطر الانتماء والتضامن الاشمل والأكثر توحيداً وحداثة.
4- ترفع الحروب منسوب التدين، بل إنها تنتج أنماطاً من التدين أكثر تطرفاً من أنماط تسييس الأديان، أصولية وجهادية وتكفيرية، تسوغ القتل باسم الدين.
5- لا يوجد غالب ومغلوب في الحروب الأهلية، كلاهما خاسر، وإن تفاوتت الخسائر، والثورات التي انقلبت إلى حروب أهلية – وهو حال معظمها – وانتصرت، حوّرت الحرب طبيعتها، وحرفت مساراتها.
6- أفدح الأخطاء هو الظن أن نهاية الحروب الأهلية تعني العودة إلى أوضاع طبيعية، أو أوضاع ما قبل الحرب، مرحلة ما بعد الحرب هي نتاج الدولة والمجتمع الناجمين عن نظام الحرب، وهي عادة مرحلة دفع فواتير الحرب لفترة طويلة على الصعد كافة، وأبرزها استشراء العنف في شرايين المجتمع.