ضمير لبنان وصديق العرب في ذمة الله

نشر في 28-08-2024
آخر تحديث 27-08-2024 | 19:48
 د. بلال عقل الصنديد

لم يمرّ تاريخ 25/8/2024 عادياً على لبنان والعرب، حيث تم الإعلان عن وفاة المغفور له بإذنه تعالى رئيس مجلس الوزراء اللبناني الأسبق الدكتور سليم الحص، وهو - باعتراف جميع الموالين والمعارضين لسياساته - «ضمير لبنان» الحيّ، حيث لم يعرف عنه إلا الاستقامة والنزاهة، ولم يمارس السياسة إلا بمنطق العمل الوطني، ولم يشغل أي منصب إلا بدافع الكفاءة وثوب التواضع، ولم ينشغل إلا بعفّة اللسان ونظافة الكف.

تواضعه غير مصطنع ورقيه الإنساني مشهود له، وكم كان يذهلني - بحكم عدم الاعتياد على تواضع أصحاب المناصب السياسية والرسمية - عندما كنت أراه، وأنا طالب في مدرسة مجاورة للشقة السكنية التي يملكها في عمارة عادية، متجولاً مشياً على الأقدام دون مرافقين في الأحياء والأزقة المجاورة، فكان دائماً موضع ترحاب ومحط إعجاب.

لم يكن الرئيس المتواضع ساعياً لأي منصب، ولم يخدمه في مسيرته المهنية والسياسية يتمه المبكّر ولا خروجه من أسرة متواضعة لم يكن باستطاعتها أن تنقل إليه أي إرث سياسي أو ثروة مادية، فكان مفتاح النجاح لديه علماً واسعاً ومثابرة وجدّية، وكان سلاح انتصاراته في معتركات العمر صواباً في الرأي وموضوعية في القرار وترفّعاً عن المصالح الذاتية والفئوية.

ولعلّ نجاحه في الحياة مثال لكل طامح ومتمسك بالقيم الأخلاقية والمقدرات العلمية والعملية، إذ لم يعرف عن الفقيد أنه استعان بواسطة أو تملق لأحد أو لهث وراء وجاهة... حتى إن توليه للمرة الأولى مرة منصب رئاسة الحكومة كان بفضل قناعة حاكم مصرف لبنان في وقتها إلياس سركيس بنزاهته وتميزه في رئاسة أول لجنة للرقابة على المصارف منذ عام 1967، فما إن انتخب «الآدمي» سركيس رئيساً للجمهورية حتى كلّف الفقيد رئاسة حكومة تكنوقراط تدير البلاد بذهنية العلم والكفاءة لا بمنطق الطائفية والحزبية والتمييز المناطقي.

تاريخه في العمل السياسي والاقتصادي صنع له اسماً محفوراً في وجدان كل اللبنانيين ومن عرفه من عرب وأجانب، اذ بدأ مسيرته كأكاديمي متميّز ومستشار متمرّس لعدد من الجهات الحكومية والخاصة داخل لبنان وخارجه، وقد ختم حياته السياسية بالخروج طوعاً من دهاليزها عندما جرفت الحماسة ناخبيه عام 2000 إلى وجهة أخرى ناهضها وناهضته رغم كل ما بدا من احترام متبادل.

تولى المغفور له بإذنه تعالى رئاسة الحكومة اللبنانية خمس مرات في أصعب وأدق الظروف السياسية والأمنية التي مرّ بها لبنان، وشغل المنصب النيابي عن العاصمة بيروت مرتين، فلم يعرف عنه طوال حياته السياسية أي فجور في الخصومة ولم يشهد له إلا بالشفافية والصدق والصلابة في الموقف الذي يعبّر من خلاله عن قناعاته الوطنية والعروبية الراسخة.

وكم كان يحزنني في أقسى مراحل الانقسام الطائفي وأشد درجات الشرخ المذهبي - ورغم اعتراف الجميع بسمو أخلاقه ووطنيته الصادقة - أن أسمع من بعض المتحمسين أو الجهلة أو الطائفيين عبارات تحمل كثيراً من النقد لمواقفه المحايدة التي لا يمكن أن تربط بأي تمييز أو عنصرية أو تعصب لفئة دون أخرى!

ولعلّ ما كتبه في الصحافة عن زواجه بالسيدة ليلى فرعون يلخص قناعاته الخاصة ورؤيته الوطنية، اذ خطّ معتزاً: «أنا مسلم من لبنان، تزوجتُ من سيدة مسيحية من بلدة دير القمر... أحببتُها حباً جماً، واحتفظَت هي بعقيدتها الدينية طوال حياتنا الزوجية السعيدة التي دامت أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، ولم يكن في الأمر أدنى إشكال أو مشكلة.

وما كان هذا خروجاً على الإسلام من قريب أو بعيد، فقد كانت إحدى زوجات الرسول قبطية.

وقبل أشهر من وفاتها – رحمها الله – وكانت على فراش المرض العضال في حال من المعاناة الشديدة، توجَّهَت إليَّ بكلمة مقتضبة تنم عن تصميم قاطع قائلة: أريد أن أعتنق الإسلام.

فسألتها للتو: لِم تقررين ذلك الآن؟ هل أنتِ مقتنعة بما تقولين؟ وعندما أكدتْ عزْمها، كررتُ السؤال: هل أنتِ واثقة مما تطلبين؟ فأفحمتْني، لا بل سحقتْني، ببساطة الجواب: صممتُ على أن أُدفن في قبر واحد معك».

*****

إلى جانب أنه «رجل دولة» بامتياز فقد كان الفقيد صاحب فكر دفّاق وقلم رقراق، فكتب باللغتين العربية والإنكليزية عشرات الكتب والدراسات والمؤلفات في الاقتصاد والفكر السياسي والمواقف الوطنية.

فقد شغلته الحرب وانقسامات الشعب اللبناني فأصدر عام 1982 كتاباً بعنوان «لبنان المعاناة والسلم» وألحقه في عام 1983 بكتاب آخر عنونه «لبنان على المفترق» ومن ثم في عام 1987 نبّه من ويلات الانقسام والاقتتال بـ «نقاط على الحروف» اللبنانية والظروف المحيطة، معلناً بحق في عام 1988 أن الحرب الأهلية هي «حرب الضحايا على الضحايا».

ومن ثم شغله مستقبل الوطن وتطلعات أجياله ما بعد انتهاء الحرب، فأبدى رأيه بشجاعة فيما خصّ الكثير من التطورات السياسية والاقتصادية التي سادت في فترة ما بعد «اتفاق الطائف» واضعاً لبنان الذي يريده في عام 1991 «على طريق الجمهورية الجديدة»، معلقاً على «عهد القرار والهوى» مؤكداً مواقفه الراسخة من خلال مجموعة كتب يدّل عنوانها على مضمونها، فمن «ذكريات وعبر» الذي أصدره عام 1994 تابع في عام 2000 بتأكيد رؤيته الوطنية «للحقيقة والتاريخ» ناقلاً إلينا في عام 2002 «محطات وطنية وقومية» عاشها وعايشها، إلى أن تجلى في عام 2004 بكتاب وضع فيه «عصارة العمر»، مؤكداً في عام 2006 على أهمية «سلاح الموقف» خاتماً قوله في عام 2008 بـ»ما قلّ ودلّ».

ومن حيث إن الرئيس الفقيد شعر، بشهادة القريبين منه، أنه مقاتل شبه وحيد - ولكنه عنيد - في ميدان يجابهه فيه الطائفيون، كتب محذراً ومندداً في عام 2004 «نحن والطائفية» معلناً في نفس العام أن صوت الحق «صوت بلا صدى»، وذلك في «زمن الشدائد لبنانياً وعربياً».

*****

الرئيس الفقيد هو عروبي بلا تردد وصديق العرب بلا التباس، هو لبناني حتى النخاع وحامل لواء القضية الفلسطينية بلا مواربة ولا ادعاء، هو المقاوم بالكلمة الحرّة والمدافع عن الحق بالموقف الجريء، فكان أول مسؤول عربي رسمي يندد بالغزو الصدّامي الغاشم للكويت الحبيبة.

وللرئيس مع الكويت علاقة مميزة، إذ كان من خيرة من استعان بخدماتهم الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في عام 1963 حيث تولى مهمّة المستشار المالي للصندوق، فكان موضع ثقة الزملاء والأصدقاء ومحط أنظار أصحاب القرار في الكويت والبلاد العربية التي تعرّف إليها وعرف رجالاتها بحكم طبيعة عمله في الصندوق.

*****

كأي رجل سياسي، قد نخالف الفقيد في بعض المواقف، وقد نعارضه في بعض السياسات، إلا أن احترامه فرضه على الجميع ونبل صفاته لا تحتاج لشهادة... وكم كانت رغبتي شديدة بزيارته ما بعد اعتزاله في صومعته المتواضعة، فلم يكتب الله لي هذا الشرف.

رحم الله ضمير لبنان وصديق العرب، ورحمنا المولى من شرور أنفسنا وتخلف انقساماتنا وجهل الطائفيين منّا وكسل الاتكاليين المحسوبين على شعوبنا وعبث الفاشلين والفاسدين ممن أعتذر إلى الفقيد أني ذكرتهم بمناسبة الحديث عنه وله.

* كاتب ومستشار لبناني

back to top