الموقف الذي أعاد برمجة تفكيري، يقول راوي هذه القصة: عندما كنت مراهقا، كنت أرى الحياة بأعين أصحابي، أحب ما يحبون وأكره ما يكرهون، وأحترم ما يحترمون، كنا مراهقين نعيش في عالمنا الخاص، وكانت لنا مقاييس صبيانية غريبة في تقييم الأشياء وتصنيفها، كنا نعتقد أننا أفهم الناس، والحقيقة أننا أبعد ما يكون عن بوصلة الرشد.

فمثلاً، كنا نرى الرجولة في شخصية الشاب المتهور، الجلف ذي الطباع الغليظة، الذي يتكلم بتحدّ وعنجهية، بصوته المنكر! وكنا أحياناً نتكلّف الحديث بهذا الأسلوب المستفز، لنصل إلى هذه الطبقة نفسها من النشاز، كنا ندخّن السجائر بشراهة، لتكتمل صورة الرجل الخطير، الذي لا يهاب الموت، وكأننا نقول للناس: إذا كنتم تهربون من النار ودخانها، فها نحن نتنفسها وننفث دخانها من أفواهنا ومناخرنا! وإذا كنتم تحترمون القانون، وتنتظرون إشارة المرور، فها نحن نكسر القانون، ونكسر إشارة المرور فوقه. سياراتنا ليست عادية، هي كالوحوش الضارية، أصواتها مرعبة، وسرعاتها مذهلة، ونحن الفرسان الذين نسوق هذه الوحوش الآلية!

Ad

وكانت من هواياتنا اليومية المشي في الشوارع والشماتة بكل موقف نراه من حولنا، فالشماتة تشعرنا بأهميتنا، وأننا الأكمل!

وفي يوم، ونحن نتسكع في أحد شوارع المنطقة، رأيت جدي من بعيد، يريد عبور الشارع بعصاه الخشبية، وكان مسناً ضعيف البصر ثقيل الحركة، فلمحه أحد أفراد «الشلة» وبدأ يتندر عليه وعلى مشيته، كبقية الضحايا اليومية، مغنياً: «شلون تمشي الحمسة؟»- أي السلحفاة- ويهزّ خصره ويصفق ويضحك، لم تكن عندي الشجاعة الكافية لكي أنصحهم بالتوقف عن هذه المهزلة، وكنت أخشى أن يعيروني به فيما بعد، فهم لا يعلمون أنه جدي.

وما هي إلا لحظات، وإذا بشاب يظهر كالصقر، يمشي بخطوات سريعة نحو جدي، ليقبّل رأسه، ويأخذ بيده، ويعينه على عبور الشارع المزدحم، بكل حب واعتزاز، ويرسم البسمة على وجه ذلك الشيخ الهرم، وإذا به شخص نعرفه، اسمه «ماجد»، وكان شاباً خلوقاً محترماً، لكننا كنا نستهين به، ولا نراه في أعيننا شيئاً! وكنا ننفر من شخصيته، لأنه متواضع وصاحب مبادئ! ولأن أوصافه تتناقض مع مقاييس «رجولة المراهقين» التي رسمناها في خيالنا «السينمائي»! فكنا نراه ومن مثله أشخاصاً ضعفاء، بلا شخصية، ينقادون لأوامر الكبار!

حينها، جاءتني ومضة من الرشد، وسألت نفسي: هل أصبح هذا الغريب أنفع لجدي مني؟! هنا أدركت أن هذا الشاب المحترم وأمثاله، هم الذهب الذي يمشي على الأرض، وهم الرجال الحقيقيون، الذين يتمسكون بالقيم النبيلة التي تحفظ كرامة المجتمع، وأدركت أنني في وسط حثالة لا خير فيها، ولا في من يصاحبها، وما هم إلا عاهات ابتلي بهم المجتمع! وتمنيت حينئذ أنني لم أكن منتمياً لهذه الشلة السائبة التي تعتز بالرذائل، وتحتقر الفضائل! وتقتبس هويتها من الشخصيات الغربية، والأفلام الأجنبية!