• كاتبة، وناقدة، وقاصة، وصحافية.. أين أنت في هذه الرحلة، ماذا أخذت منك، وماذا أعطتك؟
- أنا أرى الآن، كل هذه المراحل من تجارب، ومما اكتسبته وحقّقته من خبرات، كل حلقة معقودة مع الأخرى في سلسلة حياتي المهنية والكتابية. إن أي تجربة تنخرط فيها بشكل عميق، حتى في فشل ما أو نجاحات، تغني الإنسان لتجاوز المرحلة، وليهتدي إلى الطريق الذي يستطيع أن ينجزه في المستقبل، فالكاتب كما الإنسان، لا يمكن فصل حاضره عن ماضيه، ولذا فإن مسيرتي وهويتي هما في كل هذا التنوّع، التاريخ الشخصي والمهني هما تراكم خبرات وتجارب إنسانية وثقافية وإبداعية، أنا كثيرة الوفاء في كل تجاربي، وإلى ما يثير هواجسي في الكتابة وفهم البشر والحياة، وأعتقد أن أعمالي تجيب عن أسئلتي، وتجسّد رؤيتي ومشروعي الكتابي، ليس عندي رواية أفضل من الأخرى بالنسبة إليّ، لكنّ أي رواية لا ترى النور إلا بعد اقتناعي بأنها تستحق أن أقدّمها للقارئ. وأشكر الله على أن كل رواية أصدرتها اعتُبِرت من النقّاد أنها حدث ثقافي، الناقد - كما القارئ - قد يفضّل رواية عن أخرى، ولست أنا، هو من يحق له ذلك.
• في رواية «افرح يا قلبي» يحضر المكان بشكل كبير، وكأنه البطل، لماذا كل هذا الإغراق والالتصاق بالمكان وحيواته؟
- لا تخلو أي رواية عندي من الحديث عن المكان. إنه يحضر بتفاصيله، حتى ليشعر القارئ وكأنه يتعرّف على كل شيء فيه، لا يمكنني البدء بكتابة أي رواية، قبل أن أتخيّل المكان الذي يعيش فيه الأبطال، فهل يمكن للكاتب بدء كتابة رواية من دون مكان، حيث تجري الأحداث فيه؟ المكان ليس حجارة أو بعض إسمنت أو بقعة جغرافية فقط، إن حياةً فيه تجري. هو بشر، وأنفاس، وحيوات، وحكايات. خذ مثلًا قرّاء الكاتب الكبير العملاق نجيب محفوظ، ومن بينهم أنا، كنت قد قرأت أعماله قبل أن أزور القاهرة لأول مرة، شعرت حين هبطت الطائرة أنني سأتعرّف على المدينة التي أخبرني عنها محفوظ في رواياته.
• استوحيت في كتاباتك عواصم عربية وأوروبية، فهل لك أن تقربينا من طبيعة تمثّلك الإبداعى لتلك المدن في أبعادها وتجلياتها الإبداعية المختلفة؟
- هذا صحيح، تناولت في رواية «أن تعشق الحياة»، بالإضافة إلى بيروت، أمكنة في سورية والعراق، حيث جرى ما سُمّي بالربيع العربي، وأذكر أنني قلت بما معناه بأن أجسادنا تشبه مدننا، فالبطلة بسمة مريضة كمرض هذه الأوطان، وفي رواية «افرح يا قلبي» الأخيرة، تدور أحداثها بين لبنان ونيويورك، وكذلك أمكنة في باريس. إن أبعاد وتجليات المكان إبداعيًا، هو للكشف عن تجارب الأبطال فيه والعلاقات الإنسانية، والتكوين النفسي، والاجتماعي، والثقافي في هذه الأمكنة، والإنسان بطبعه ابن المكان، وليس ابن زمنه فقط، المكان ذاكرة وتاريخ وثقافة عيش ومفاهيم ومعتقدات، وما يحويه من أحوال وطبيعة علاقات وغير ذلك.
في رواية «افرح يا قلبي» الأخيرة، عالجت مسألة الانتماء والهوية والصراع بين الشرق والغرب أيضًا، وعالجت هذه الثيمة بشكل مختلف ومغاير عمّا كتبه الكثير من الكتّاب العرب، والبطل غسّان عاش صراعًا في هويته، وهو الذي قضى أكثر عمره في مدينة نيويورك، لذلك يحكي عن عيشه في هذه المدينة وعلاقته بالمكان وبذاته وبالمرأة الأجنبية، مثلما يحكي عن مكان بلدته «دار العزّ»، التي هي رمز للبنان والشرق.
يحكي غسان عن كل شيء في نيويورك وما بدّلته فيه، لكنّ الحنين إلى مكانه وبلدته وإلى كل ما هو جميل وحميم «في الشرق» لم يغادر ذاكرته ولا تكوينه الثقافي والعاطفي.
• كنت الأكثر جرأة ونجحت في تأكيد وجود المرأة، وأنها ليست مجرد جسد عورة، نود الاطلاع على البعد التكويني الموازي لتجربتك في معالجة همومها وأزماتها.
- ربما، لأن المعيار الأساسي عندي في الفن الروائي هو الصدق، وإذا كنت تسألني عن البُعد التكويني الشخصي لي، فلا أدّعي أنني متمرّدة، أو أحمل شعارات معيّنة. أنا في الحياة قد أجامل أو أغضّ النظر عمّا يزعجني، لأنني غير مهتمة بصراعات النفوذ ولا بالتوافه حولي، فأنا منسحبة من كل الأشياء المغلوطة من حولي وعند العالم، إلى صمتٍ كثير، لكنّ الكتابة هي المساحة التي لا أستطيع فيها أن أتحمّل أي صمت أو مراوغة، وعدم المواجهة مع ما يسبّب اختلالًا في حياة الإنسان. وإذا ما كنت أبرز أي قبحٍ يكون هدفي نشيد الجمال الإنساني.
إني حقًا أتأثر بأي ظلم أو نظرة حب، كأنني إسفنجة قلمية لكل المشاعر، أواجه الظلم الذي أنا ضدّه وأسعى إلى كنوز لغوية سحرية لأرى النور والرحمة لكل المقموعات والمقموعين.
أليس شواغل الأدب هي الإنسان أولًا؟ وبكل صدق أقول لك إنني لم أسعَ إلى النجاح أو إلى الشهرة. خلال الكتابة لا أفكّر بما يرضي الآخرين، ولا بالنقد ولا بالقارئ، وإنما أنخرط بشكل كليّ في الورشة الكتابية لأبني عمارة الرواية. وصدقني أيضًا إن أي نجاح لرواياتي لم يصبني بالغرور ولا بتضخّم الذات أبدًا، فهذا المرض عصيّ على العلاج حين يصيب الكاتب، ومقتل للقدرة على الابتكار.
الكاتب الحقيقي، برأيي، يجب ألا ينافس غيره، وإنما ينافس نفسه، وما أنجزه سابقًا، هذا ما أومن به وأسعى إليه دومًا. لم أشعر حتى الآن بامتلاء الذات عن هذا النجاح الذي تتحدث عنه، فالعطش للتعبير ظمأ لا يرتوي أبدًا، وأسعى دائمًا إلى عدم تقليل ما أنجزته ولتخطّيه. وأوجد دائمًا نقصًا ما، ولو وهمًا، أحتاج إلى ملئه، أما مسألة النجاح أو الفشل فيقرّرها القارئ والناقد.
• في إبداعاتك رسائل واضحة ومواجهة منظومات القهر، مثل رواية «دنيا» و»اسمه الغرام» و»أن تعشق الحياة» و»افرح يا قلبي»، ما الرسالة التي أردت توجيهها للمجتمع؟
- حاولت إعلاء صوت شخصياتي النسائية المكمومة في أعماقهن، وليحكين هنّ عن تجاربهن وحيواتهن وعلاقتهن بذواتهن وبالآخر وبالعالم. حاولت كسر المفاهيم الذكورية السائدة في الأدب، إنْ عند كتابات الرجال أو النساء. سعيت إلى تأنيث اللغة بقدر استطاعتي، وبقدر إيماني بوصل اللغة مع ما هو حسّي، ومع ما هو خفيّ في أقبية العلاقات الإنسانية، وإلى ما هو حقيقي، وحفر ما هو في آبار سحيقة داخل الشخصيات، لا سيما النسائية منها.
• اهتمامك بالمرأة موجود في جل إبداعاتك، مما دفع النقاد لإطلاق لقب «كاتبة المرأة العربية في الأدب العربي»، ما الذى تناضلين من أجله في سبيل تقدم المرأة العربية؟
- أنا كاتبة ولست مناضلة نسوية، ولا أناضل من أجل أي شيء، بعيدة كل البعد عن أي لغة خطابية أو شعاراتية معيّنة، أنا أناضل فنيًا ومعرفيًا داخل الأدب الذي له سردياته المختلفة. يكفيني ويرضيني أنني أسعى من خلال الكتابة واللغة أن أكتب أدبًا حقيقيًا كاشفًا لمشكلات المرأة وواقعها، كما الإنسان البسيط. الأدب ليس أداةً، وإنما حقله هو الأسئلة والكشف والإضاءة كما أفهمه، وبعيدة كل البعد عن أي هاجس أيديولوجي. ومن خلال علاقتي بقارئات وقرّاء رواياتي، أشعر بسعادة حين يقولون لي إنهم رأوا أنفسهم في شخصيات رواياتي، ويتماهى القارئ مع الأدب الحقيقي، يصبح أكثر وعيًا لذاته ولعلاقته بالآخر وبالعالم.
• هل اختياركم للموضوع ينبع من الواقع المحيط والتزامكم الأخلاقي، كما حملت رواية «مريم الحكايا» البيئة في الجنوب اللبناني، دفعت بقول الروائي المصري صنع الله إبراهيم بأنّها «تعكس حياة وواقع الأمّة العربيّة على امتداد خمسين عاماً»؟
- إنه التزام بمعنى ومفهوم الكتابة ومسؤولية الفن، وكان هاجسي في «مريم الحكايا»، أن أتحدّث عن خيبات الحرب اللبنانية والخذلان الذي أصاب النساء، لكنني وجدت نفسي أذهب بعيدًا لأعبّر عن مراحل تاريخية اجتماعية وسياسية، وإلى لعبة مرايا بين أجيال ثلاثة: الجدّات والأمّهات والبنات، وهذا ما دفع بالكاتب الكبير صنع الله إبراهيم إلى القول بأنها تجسّد حياة الأمة العربية على مدى خمسين عامًا، كانت «مريم الحكايا» باكورة أعمالي، وأنا سعيدة جدًا لاعتبارها من قبل النقّاد والقرّاء أنها كانت تحوّلًا في كتابة المرأة والكتابة الروائية عمومًا.
• وما الجديد الذي ينتظره قراء ومتابعو علوية صبح؟
- الجديد ما زلت أعمل عليه، لا أستطيع أن أتحدّث عن عمل قبل صدوره، كتابة الرواية أشبه بسرّ بيني وبين نفسي وأوراقي، وإن تحدّثت عنه لا أستطيع أن أكمله، لأن الكلام عنها يفسد دماغي وخيالي وأفكاري ومطبخ الرواية نفسها.