ما قل ودل: الهوية الثقافية القومية في خطر ببرنامج وزير التربية والتعليم
على هامش اجتماع اللجنة البرلمانية في مجلس النواب بمصر، لمناقشة برنامج الحكومة المصرية التي شُكلت في شهر يونيو الماضي، أدلى وزير التربية والتعليم الجديد، الأستاذ محمد عبداللطيف، بتصريحات بإلغاء بعض المواد الدراسية في الثانوية العامة، وضمّ بعض المواد إلى أخرى مع اختصارها، لربط التعليم بسوق العمل، كما كانت له رؤية لمفاهيم القضية الفلسطينية التي يحتم عليه دوره التربوي أن تُفهّم للطلاب، وهما أمران سنفرد لأولهما مقال اليوم.
ربط التعليم بسوق العمل
لا غبار أو تثريب على ربط التعليم بسوق العمل، للحد من البطالة من ناحية، ولتحقيق التنمية المستدامة من ناحية أخرى، بما يحقق زيادة الإنتاج وزيادة الدخل القومي ورفع مستوى المعيشة تبعا لذلك.
ولكن ما لم أفهمه أن يُلغى علم النفس والفلسفة والمنطق والجغرافيا والجيولوجيا، لعدم حاجة سوق العمل إلى مثل هذه المواد، واختصار مواد أخرى مع دمجها في بعضها.
فالاهتمام بسوق العمل وربط التعليم به، وإن كان أمرا مطلوبا ومحموداً، وإن ساهم في تخفيف أعباء المواطن من الدروس الخصوصية التي أصبح الطلاب يتلقونها في كل المواد الدراسية تقريبا، إلا أنه قد يكون أثره محدودا إذا رفع الأساتذة تعريفة هذه الدروس، لتعويضهم عن دمج المواد، لأنه ليست هناك رقابة أصلاً على السوق بوجه عام، والدروس الخصوصية جزء من هذا السوق، وهو سوق لا يعني صندوق النقد الدولي، بوضع رقابة عليه أو قيود أو ضوابط، لتنفذ الدول المدينة له تعليماته، فهي لا تدخل في حسابات هذا الصندوق التي تقوم على إطلاق حرية السوق والتجارة، مع ما هو معلوم من أن هذا الصندوق أنشئ أصلاً وأساسا عقب الحرب العالمية الثانية لكي يكون أداة للاستعمار الجديد، الذي رسم خطوطه العريضة الرئيس الأميركي ويلسون في برنامجه الذي وضعه مطلع عام 1918، عقب الحرب العالمية الأولى، لتفادي الحروب بين الدول الاستعمارية التي تسعى إلى التوسع في الأراضي التي تحتلها وتنعم بخيراتها.
برنامج ويلسون
ويتضمن برنامج الرئيس الأميركي ويلسون 14 نقطة للسلام، من ضمنها حرية الملاحة في البحار، ونزع القيود على التجارة، وتخفيض التسلح وإعادة الألزاس واللورين إلى فرنسا، وغيرها من التعديلات الإقليمية في أوروبا والعالم، وهو برنامج يقوم عليه الآن نظام العولمة، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتعمير، بل ونشأت في كنفه دولة إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة عام 1947، لتكون قاعدة للاستعمار الجديد تحمي مصالحه بموقعها المتميز في قلب الوطن العربي، وإسرائيل في وسط الشرق الأوسط، حيث ملتقى الطريق إلى آسيا وإفريقيا، لتكون مخلب قطّ يحد من جموح العملاق العربي، حيث يوجد في أرضه وفي بحاره النفط والغاز، وفي إفريقيا وآسيا ثروات الدنيا من نفط ومنغنيز وكروم وقصدير وبوكسيت ونحاس وفوسفات وحديد، ورصاص وفحم، وسوف تكون إسرائيل طريقاً قادماً من الهند إلى أوروبا، عبر موانئها على البحر الأبيض المتوسط، مرورا بالأراضي العربية، ليكون بديلا أو منافسا لطريق قناة السويس من ناحية، وللطريق الحريري الذي تتبنّاه الصين.
إنهم يخططون لكل شيء، لاستحواذ «الأفيال الخمسة» بمجلس الأمن على ثروات العالم كله، من خلال النظام الاستعماري الجديد.
هوية الإنسان الثقافية
ولا يعنى النظام العالمي الجديد بهوية الإنسان الثقافية، وهو يرفع شعار حقوق الإنسان، وإن كانت عالمية النطاق والسريان، إلا أن لها خصوصيتها في الدول النامية، التي لم تتمرس على هذه الحقوق، بسبب الاستعمار التقليدي الذي أسلمها إلى نظم الحكم الفردية.
إن هوية الإنسان الثقافية، التي أغفلها برنامج ربط التعليم بسوق العمل، ليصبح جزءا من منظومة متكاملة تسعى إلى التنمية الشاملة، من خلال تهيئة البنية التحتية، لجذب الاستثمارات الأجنبية، والتي سوف يكون ربط التعلم بسوق العمل عاملا مساعدا في جذب هذه الاستثمارات، بخلق بنية تحتية بشرية رخيصة نسبيا، وقد مورست هذه التجربة من الشركات المتعددة الجنسيات، التي أقامت مشروعاتها في الصين وكوريا الجنوبية وغيرهما، للاستفادة من رخص الأيدي العاملة بها.
تغيير العالم القبيح
وأذكر في هذا السياق حوارا أجرته صحيفة الأهرام القاهرية في 2024/8/22 مع كاتب روائي من أسيوط، يدعى فراج فتح الله، تحت عنوان مثير وجميل في آن واحد، هو خاتمة هذا الحوار، التي قالها الروائي لـ «الأهرام»: «أومن بإمكانية تغيير العالم القبيح بقراءة قصة لماركيز أو لتشيكوف»، وكان من بين ما قاله هذا الروائي في هذا الحوار «إن الروائي يتفاعل مع الأحداث التاريخية ليناقشها ويحللها». وعن الفلسفة يقول إن كتابة الرواية والملمح الأبرز بها استدعيته من أرسطو ومدرسته وفلسفته للوصول إلى هدف الروائي وتأكيده، ووجدت ضالتي في الحوار كأحد أشكال الكتابة لأتفاعل مع الواقع المعيشي والآني والتاريخ والفلسفة والمسرح، والأدب والفن هما إرهاصات تتجلي في النفس البشرية، وقد كانت قصائد الشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإيليا أبي ماضي ومحمود علي طه وجبران وغيرهم، وكتابات أحمد لطفي السيد، فيلسوف الأجيال، والذي طلب منه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر أن يكون أول رئيس لجمهورية مصر، عندما نشب الخلاف بينه وبين الرئيس الراحل محمد نجيب في أزمة مارس 1954.
إن ما كتبه نجيب محفوظ في أواخر الأربعينيات (بداية ونهاية وزقاق المدق وخان الخليلي) وما كتبه طه حسين «المعذبون في الأرض» و»الأيام»، وما كتبه عبدالرحمن الشرقاوي، في رواية الأرض، والفيلم السينمائي الذي جسّدها، كانت كل هذه الكتابات والفن الراقي التراث الثقافي للمصريين في معركتهم مع الإقطاع، وتوفيق الحكيم الذي كتب «عودة الروح» وبنك القلق.
إن الثقافة والأدب والفن دقت ناقوس الخطر في مصر للحفاظ على الحلم والأمل في غد أفضل، إنها مشرط جراح يشرّح به الأديب أو الفنان أو الشاعر المجتمع بما فيه من تحولات وبما يموج به من أحداث، وبما يصادفه من تحديات.
إن مسرحية وفيلم ميرامار، وهي القصة التي ألّفها «أديب نوبل»، نجيب محفوظ، تشرح الصراع الاجتماعي والسياسي في ظل تنظيم الحزب الواحد الاتحاد الاشتراكي وانتهازية شاب ينتمي إلى هذا التنظيم.
وإن قصة عبدالرحمن الشرقاوي ورائعته «الفتى مهران»، التي أثارت ضجة عندما قدمت على خشبة المسرح سنة 66، والتي يستدعى فيها الكاتب الماضي ليسقطه على الحاضر، وإن قصة مسرحية الأستاذ التي كتبها سعدالدين وهبة للإسقاط على نكسة 1967، والتي لم تر النور إلا بعد عشر سنوات في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، والتي أوقف بعد ذلك عرضها عقب قرارات سبتمبر 61، كانت نوراً وإشعاعاً يضيء للمجتمع طريقه في عودة الوعي.
نحن لسنا ضد المهارات التكنولوجية، والعارفين بأسرار المعلومات والكمبيوتر والبرمجة هم من يتطلبهم سوق العمل، وهم الفائزون بآلاف الدولارات، لكن ذلك لا يعني تجريف الثقافة والهوية الثقافية من الفلسفة والمنطق والفن والأدب والجغرافيا والتاريخ، إن الثقافة والهوية الثقافية عقيدة شاملة ومذهب فكري ومسلك أخلاقي في بناء الإنسان، وإن اقتلاع الإنسان من جذوره الثقافية يسلبه استلاباً كاملاً من حرية الفكر والإبداع في معايشته للحياة في كل تجاربها ومراحلها، بما لا يفقده ذاته والصلة بينه وبين ماضيه، فالحفاظ على الثقافة بمشاربها ومعارفها وألوانها المختلفة ونتاجها الذهني والروحي هو تراث الهوية الإنسانية الثقافية وإرثها المتطور من جيل الى جيل، هو حضارتها التي تفخر بها، وكانت مصر أول دولة مركزية علمت العالم كله الكتابة والطباعة والفنون والزخرفة والعلوم المختلفة.
إن تحويل الإنسان إلى «روبوت رقمي» وتشغيله كآلة أو سلعة في يد الاستغلال الرأسمالي وإلى سوق، يؤدي لا محالة إلى سحق الشخصية المصرية الحضارية والإنسانية من جميع الوجوه التي لا غنى عنها لتحقيق التقدم واللحاق بركبه في العالم كله... وسوف نعرض لرؤية الوزير للقضية الفلسطينية في مقال قادم بإذن الله إن كان للعمر بقية.