من كهف مدفون إلى صرح للفنون

نشر في 02-09-2024
آخر تحديث 01-09-2024 | 19:36
 د. بلال عقل الصنديد

أحرص كلما أتيحت لي الفرصة، أثناء وجودي في لبنان، على أن أزور «كهف الفنون» في قرية «الجاهلية» الراسية على ضفاف نهرها الرقراق في وديان «جبل الشوف»، للاطلاع على آخر مستجدات هذا الصرح الذي تخطّى مفهوم المتحف ليصبح تحفة فنية وثقافية فريدة تجسد عشق الفنان غاندي بو ذياب لتراب وحجر وطنه، وتعكس مدى التحامه المعنوي بالبيئة الطبيعية والثقافية التي نشأ بين أحضانها ولم ينفصل عنها يوماً أو تنفصل عنه برهة.

وها أنا أنبهر من جديد بما شيّده خيال «غاندي»، وما اقترفته يداه الملطختان بكل ألوان الجمال والإبداع الذي يفوق الوصف حتى يحتار الإعجاب أين يلقي حِماله، على مقاعد الحديقة البيئية؟ أم على جنبات الهياكل الحجرية التي شيدها صاحب الصرح بعرق وجهد ساعديه؟ أم تحت عتبات الأبواب الخشبية التراثية التي تزين المكان؟ أم في أروقة «قطار الزمان»؟ أم في زوايا الأقبية القديمة؟ أم أمام اللوحات الفنية المرسومة والمنحوتة بحب وإتقان؟

«كهف الفنون» الذي انطلق من مجرد معرض فني في أقبية عثمانية يعود تاريخها لأكثر من أربعمئة عام، تحول بفضل إصرار وإبداع صاحبه إلى صرح ثقافي يضم بين جدرانه شذرات من تراث جبل لبنان الغني والبديع.

فغاندي بو ذياب، الفنان الشامل الذي خصّه الله بمواهب الرسم والنحت والشعر، لم يكتفِ بعرض أعماله الفنية في هذا الكهف، بل سعى إلى تحويله إلى فضاء يجمع بين الطبيعة والتراث والإبداع... ومن حيث إن صاحب المكان هو ناشط في المجال الثقافي، يصرّ على أن تصبح «صومعته» هذه صرحاً ثقافياً وبيئياً متكاملاً من شأنه أن ينقل الفن اللبناني إلى العالمية، ويساهم في تعزيز السياحة الريفية في منطقة «الشوف»، ويضيء على وجه لبنان الحضاري، بما يكتنزه من تميّز فني وتألق أدبي ورونق طبيعي وتراث غني وأصالة فريدة.

يشعر الزائر عند زيارته لـ «كهف الفنون» وكأنه يسافر في رحلة عبر الزمن، إذ في القسم الأول منه تتنقل الدهشة كالفراش بين لوحات ومقتنيات ترتبط بالهوية الثقافية لبني معروف «الدروز» وبالتراث الريفي لمنطقة «الشوف»... وفي القسم الثاني، يعود الزائر إلى زمن الأجداد، حيث يتحسس مجموعة كبيرة من الأدوات الزراعية والحرفية التي يروي صداها قصص الأسلاف وتفاصيل الأجداد في كدحهم اليومي من «الفجر إلى النجر»... أما القسم الثالث فهو عبارة عن رحلة إلى عالم المنزل الريفي القديم، حيث يحتوي المتحف على مجموعة من المفروشات والأدوات المنزلية التي تنقل بأمانة صورة الماضي البهي والحياة اليومية لأهله.

وما «قطار الزمان»، الذي شيّده الفنان بوذياب من حجر الشغف بالأرض ومتعة استخدام ذخائرها، إلا محطة عبور بين أقبية الماضي وحديقة المستقبل البيئية التي -بمقاعدها الحجرية وخشبها العتيق وغصونها الوارفة وبرك مائها التي لا تحرك ساكنها إلا بتلات الورد المتساقطة- تحتضن كل الأنشطة الثقافية والأمسيات الشعرية والفعاليات الريفية.

يؤكد لي غاندي بو ذياب في كل مرة أنه من خلال «كهف الفنون» يسعى إلى تحقيق عدة أهداف، يتمثل عنواناها العريضان بالمحافظة على التراث اللبناني وحمايته من الاندثار من جهة، ونقل المجتمع اللبناني من براثن التباغض إلى فضاء التسامح ورونق الإبداع من جهة أخرى، حيث للأقبية التي تحتضن المعروضات قصة يبدو أنها تتطابق مع واقع التاريخ اللبناني، حيث كانت في فترة الحكم العثماني ملتقى لوجهاء المنطقة في ضيافة الجد الأكبر لعائلة بوذياب، ومن ثم تحولت في فترة الحرب الأهلية إلى ملجأ يقي ساكنيه من ويلات القذائف المتبادلة، إلى أن قرر الفنان أن ينقل واقعها المرتبط بالاحتلال والحروب إلى رمزية تضج بعبق السلام والالفة والفن.

يطمح غاندي بو ذياب إلى أن يصبح «كهف الفنون» مركزاً ثقافياً وبيئياً مستدام النشاط في كل الفصول، ويسعى من أجل ذلك إلى إقامة شراكات مع المؤسسات الثقافية والسياحية لتطوير هذا المشروع ليضم مكتبة عريقة، وورشة عمل للحرف الريفية، وقاعة للعروض الفنية، ومحترفاً للنحت، ومنصة دائمة للقاءات الشعرية والأدبية.

«كهف الفنون» هو أكثر من مجرد قبو كان مدفوناً في غياهب النسيان، إنه قصة نجاح لفنان مصمم على الحفاظ على تراثه وإبداعه، وإلهام للأجيال القادمة ودعوة للجميع للاحتفال بالجمال والتراث والفن والعمل معاً لبناء مستقبل أفضل ومستدام.

وغاندي بوذياب ليس مجرد فنان تقليدي، بل هو مبدع يسعى دائماً إلى التجديد والتطوير، متنقلاً من موضوعات الفن التقليدي إلى مستوى أعمق من التجديد، حيث تقوده أفكاره ومشاعره بسلاسة فريدة إلى ملامسة روح الحداثة انطلاقاً من أصالة التراث، فتراه متنقلاً بنا في رسوماته من الواقعية إلى الانطباعية وفي براعة النحت على الحجر والخشب من التجريد إلى الرمزية.

***

وقبل الختام أجد نفسي مضطراً للأسف إلى أن أنتقل معكم من روعة الحديث عن الإبداع والسلام إلى لوعة استذكار العدوان والحروب، لأؤكد أن كل الحروب الدعائية والضغوطات النفسية والمعنوية التي تعرّض لها لبنان واللبنانيون بسبب تداعيات التهديد الصهيوني المستمر بتوسيع رقعة الاعتداء على أرضه ومرافقه الحيوية، لم تؤثر في إصرار كثير من الأشقاء الكويتيين والعرب على الصمود في ربوع لبنان مستمتعين بما جاد الخالق على طبيعته من إعجاز رباني، ومتداولين مقاطع مصوّرة تظهر صخب الحياة السياحية في ساحات «حمّانا» وعلى تلال «فالوغا»، وفي أروقة كل المناطق السياحية... ولولا خشيتي من أن أغفل عن واحد منهم، لوجهت تحية خاصة بذكر أسماء عشرات الأصدقاء الكويتيين الذين أمضوا صيفهم وإجازاتهم تحت شعار «بحبك يا لبنان... بجنونك بحبّك».

* كاتب ومستشار لبناني

back to top