يمكن التعامل مع تصاعد المطالبات الشعبوية في المدى المنظور من خلال تبني عدد من الإصلاحات في نظام إدارة المالية العامة للدولة، وضمن إطار يتم التوافق بشأنه مع البرلمان. ويمكن إيجاز هذه الإصلاحات ضمن مجموعتين، الأولى تتعلق بوضع قواعد ملزمة وغير قابلة للتعديل بصورة اعتيادية للمالية العامة والموازنة، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تقليص المساحة القابلة للتجاذبات السياسية بين الحكومة والمجلس. والمجموعة الثانية تتعلق بزيادة شفافية الوضع المالي للدولة، وأوجه الصرف، بما يساهم في تعزيز الشفافية، والمساءلة، والثقة بسياسات النظام.

لقد شهد إطار المالية العامة خلال العقود الثلاثة الماضية في دول كثيرة تطوراً باتجاه التأكيد على الشفافية والإفصاح والاستدامة المالية، وربط الموازنة بمؤشرات الأداء وتحقيق التنمية المستدامة، واستحداث نظام الميزانيات متوسطة المدى، إلى جانب الميزانيات السنوية.

Ad

وإضافة إلى ما تقدَّم، يمثل أحد أهم التوجهات التي تم استحداثها في إصدار تشريعات مالية قومية تضع ضوابط مُلزمة على حجم الدَّين العام والعجز السنوي والزيادة السنوية في الإنفاق والضرائب. وتشير التجارب إلى أن تبني هذا النهج ساهم في التقليل من احتمالات نشوب خلافات سياسية بين الحكومات المتعاقبة والبرلمان، وتحويل الاهتمام إلى رسم أولويات الإنفاق والاستراتيجيات والسياسات بعيدة المدى.

وتختلف تفاصيل وأشكال التشريعات المالية من دولة إلى أخرى، وفق الظروف الاقتصادية المحيطة، حيث يمكن تصنيفها كالآتي:

• ضوابط كُلية على الحجم والتغيُّر السنوي في عجز الميزانية والدَّين العام والإنفاق.

• ضوابط تفصيلية على بعض بنود الإنفاق الجاري، مثل: الرواتب، وأنواع الدعم، وربطها ببعض المتغيرات الاقتصادية، مثل: التضخم، والناتج المحلي.

• مؤشرات وأهداف تشغيلية لتحسين كفاءة أداء مختلف القطاعات العامة، من خلال برنامج عمل الحكومة.

ولتحقيق النجاح في تطبيق تشريعات المالية العامة، ينبغي مراعاة الآتي:

1. وضوح القواعد والقوانين وواقعيتها وقابليتها للقياس والتطبيق والمتابعة.

2. وجود قواعد واضحة لبنود الاستثناء وآلية إيقاف العمل بها بمواجهة الظروف الطارئة، أو تعديل الضوابط المذكورة.

3. وجود مؤسسات ومجالس مالية مستقلة لمراقبة الامتثال، وتقديم التحليلات الموضوعية والتوصيات، باتخاذ إجراءات تصحيحية عند انتهاك القواعد.

4. الشفافية والوضوح، وإتاحة التقارير، للحفاظ على ثقة الجمهور، وضمان الالتزام بالقواعد.

ولا شك في أن تبني هذه الإصلاحات في نظام المالية العامة من شأنه أن يلعب دوراً مهماً في التخطيط المالي والتنموي، وتقليل الاحتكاك بين الحكومة والبرلمان. لكن يجب التأكيد على أن فاعلية هذه القواعد تعتمد على تصميمها، وأسلوب إدارتها، وتوافر الإرادة السياسية.

ومن المنظور السياسي، هناك عقبتان رئيسيتان قد تحولان دون تبني الحكومة الكويتية الفعَّال للقواعد المالية، الأولى تتعلق بتقييد مرونة الحكومة في التفاعل مع الاحتياجات الطارئة، وعدم غل يدها في تنفيذ المبادرات الشعبوية الخاصة بها، كما كان الحال بالسابق في توزيع المنح والزيادات غير المجدولة في الرواتب أو في توزيع المنح والهبات الخارجية.

أما العقبة الثانية، فتتمثل في التحفظ الحكومي نحو المزيد من الشفافية، بسبب الاعتقاد بأن ذلك قد يزيد من الضغوط الداخلية والخارجية على الإنفاق العام.

ورغم تفهم وجود مثل هذه التحفظات في زمن الوفرة، فإنها لا تمثل مبرراً كافياً، في ظل الظروف الراهنة، التي تشهد تراجعاً في وضع المالية العامة، وتفاقماً للعجز، وحاجة مُلحَّة للحد من درجة الاحتقان السياسي.

*خبير اقتصادي