عاد الى واجهة الأحداث، أخيرا، الحديث عن مجموعة من مشاريع البنية التحتية الكبرى في البلاد، المستنسخة من مشاريع فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين بالعراق عام 2003.
فخلال الأسابيع الأخيرة الماضية، نشطت الجهات الحكومية المتعددة في استحضار مجموعة من المشاريع السابقة، من خلال إجراءات لتنفيذ بنى تحتية متنوعة، أبرزها ميناء مبارك الكبير ومشاريع الجزر الكويتية، وإحياء المنطقة الشمالية، فضلا عن المناطق الاقتصادية الحرة وسكك الحديد والمترو، وغيرها من المشروعات، لكن من دون وجود أي حديث أو إجراء يستهدف معالجة الخلل الذي جعل جميع هذه المشاريع تتعثّر، فضلا عن أن بعضها لم يعد بجاذبية وميزات ما كان الوضع عليه قبل 21 عاما.
مشاريع وإخفاقات وبالنظر إلى أعمال الجهاز التنفيذي في الدولة خلال 21 عاما، لا سيما الاقتصادي أو الخدمي أو الإشرافي، نجد أنه مر بمجموعة من الخطط التي وصفت بـ «الاستراتيجية»، بدءا من تحويل الكويت مركزا تجاريا وماليا عالميا، مرورا بالخطط التنموية الأولى والثانية والثالثة، فضلا عن وثيقة الإصلاح المالي والاقتصادي، فوثيقة استدامة، وصولا الى رؤية الكويت 2035، وكلها تضمنت المشاريع الكبرى السابقة الذكر، ولا سيما ميناء مبارك والمنطقة الشمالية والجزر تحت مظلة «مدينة الحرير»، وكلها أيضا شهدت إخفاقات واضحة في الوصول إلى نسبة محدودة من مستهدفاتها بشهادة وزراء أشرفوا على هذه الخطط.
الاعتراف بالخطأ
ومع أن الاعتراف بالخطأ أو التقصير هو أول طريق لإصلاح أي خلل، وهو ما فعله نائبا رئيس الوزراء وزيرا المالية السابقان، الشيخ سالم الصباح عام 2013، عندما أشار الى فشل خطة التنمية في نسختها الأولى، لأنها كانت ضخمة جداً وأكبر من قدرات الجهاز التنفيذي للدولة، وسعد البراك الذي اعترف عام 2023 بفشل رؤية 2035، لكونها لم ينفّذ منها «أي شيء»، إلا أن السياسات الحكومية لم تتلافَ أسباب الفشل أو الانحراف في التنفيذ.
مؤشرات وأداء
فمشاريع البنية التحتية الكبرى في البلاد لم تنفذ، ولم تحقق أيا من أهدافها أو حتى تصلح أخطاءها أو تقوّم انحرافاتها، ليس بسبب تعثّر أعمال المقاولات والبناء، ولا حتى في تصاعد البيروقراطية والدورة المستدية فقط، فأزمة هذه المشاريع هي بالأصل أزمة رؤية وإدارة أبسطها في ضعف بيئة الاستثمار والتجارة المحلية، خصوصا أن الكويت تعاني تراجعا لافتا في مؤشرات التنافسية العالمية، بما لا يناسب حجم الإنفاق الحكومي المالي المتصاعد سنويا، فهي الخامسة خليجيا في تقرير التنافسية العالمية الصادر عن مركز التنافسية العالمي التابع للمعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD)، حيث حققت المركز 37 عالمياً من أصل 67 دولة هي الأكثر تنافسية في العالم مع مؤشرات فرعية لا ترفع أبدا من مستوى التفاؤل بتنفيذ ناجح لأي من المشاريع الكبرى، إذ تحتل الكويت الترتيب 58 عالمياً في جودة الاقتصاد المحلي، والـ 30 في التجارة العالمية، والـ 61 في الاستثمار العالمي، وفي الإطار المؤسسي عند المرتبة 41، وتشريعات الأعمال إلى 54، والبنية التحتية التكنولوجية 46 عالمياً، والبنية التحتية العلمية 51.
ضعف آليات القياس
لكن الأسوأ من الترتيب بالمؤشرات الدولية هو ضعف آليات القياس والتقييم الخاصة بإنجاز المشاريع، إذ يتم احتساب ما يُعرف بنسبة الإنجاز في الكويت من خلال ما تم إنفاقه عليها ماليا فقط، وليس بما يرافق المشروع من تسهيل لبيئة الأعمال أو عقد الشراكات مع المشغلين، أو جذب الخبرات وتأهيل العمالة الوطنية للعمل مع الشركات الأجنبية، فتعريف إنجاز المشاريع بأنها «إنفاق مالي» دون جودة خدمية أو كفاءة بشرية هو انحراف حقيقي في مفهوم التنمية نتائجه أسوأ من تنفيذ الإخفاق في تنفيذ المشاريع.
ربط بالاختلالات
وفي الحقيقة، إن نجاح أي مشروع بنية تحتية يرتبط بما يعالجه من اختلالات الاقتصاد الكويتي الحقيقية، أي بما يوفره من فرص عمل للشباب الكويتيين وإمكانية فتح مشروعات صغيرة ومتوسطة في الأعمال المرتبطة بالميناء أو الجزر أو المستودعات والمناطق الحرة وتوفيره لعوائد مالية غير نفطية تضاف للخزينة العامة، كإيرادات ضريبية، أيضا بما يحدثه من إصلاح في التركيبة السكانية كمّا ونوعاً، فضلا عن رفع وزن القطاع الخاص التشغيلي في الناتج المحلي الإجمالي، وهذه هي المحددات التي يمكن أن يقاس عليها نجاح أي مشروع، وليس مجرد التعاقد مع شركات صينية، فشركات الصين تعمل بجميع دول العالم تقريبا، لكنها ليست عصا سحرية لتعالج اختلالات بيئة الاقتصاد والاستثمار والتجارة والإدارة في أي بلد حول العالم.
جدوى الميناء
يبقى محور مهم يتعلق بمشروع ميناء مبارك ومجمل مشاريع المنطقة الشمالية، خصوصا اللوجستية منها، بعد إعلان العراق في شهر أبريل الماضي انطلاق مشروع «طريق التنمية»، الذي يربط أسواق آسيا بالأسواق الأوروبية من خلال من ميناء الفاو القريب جدا من ميناء مبارك في الكويت، مما يتطلب، بصورة ما، إعادة دراسة المشروع مجددا، وتقييم جدواه التجارية والاستثمارية والمالية وحجمه، خصوصا بعد أن أعلنت وزيرة الأشغال، مطلع الأسبوع الجاري، أن الميناء أنجز بواقع 50 بالمئة في مرحلته الأولى، تمهيدا لتشغيله، ثم العمل لإنجاز المرحلتين الثانية والثالثة.
واقع وآمال
لا شك في أن أغلب ما يقال عن أهداف مشاريع البنى التحتية الكبرى في 2003 أو اليوم، مطلوب ولا خلاف عليه، فمن الضروري أن تشرع الدولة في خلق مصدر دخل مساند إن لم يكن بديلاً للنفط، ومن الحتمي أن تجد الدولة لشبابها مناخات وفرص عمل خارج القطاع العام، ومن البديهي أن جذب الاستثمارات الأجنبية يعطي الكويت أبعاداً سياسية وأمنية تضاف للفائدة الاقتصادية المرجوة من أي مشروع، إلا أنه من غير المنطقي أن نتوقع الكثير من الإنجازات والنجاحات في ظل إدارة تعاني لسنوات متواصلة أزمات مقاولات وإنشاءات متناهية الصغر مثل «تكسّر» الشوارع والحصى، أو تعثّر دروازة العبدالرزاق!