سياسة الربح المتبادل (win win)
تسعى الحكومة في عهدها الجديد إلى إعادة التوازن لميزانية الدولة التي جرفتها المناكفات السياسية والضغوط الشعبوية السابقة نحو الصرف الاستهلاكي المفرط.
وعبر تصريحات المسؤولين والوزراء، وما نلمسه من قرارات وتصرفات، نلحظ أن السعي الجاد لتحصيل حقوق الدولة المهملة من ديون كهرباء وماء ومخالفات، وما تم فرضه حديثا من رسوم وغرامات تزيد من الحصيلة النقدية لصندوق الدولة الذي يعاني أزمة سيولة منذ ما قبل أزمة كورونا.
ونستشف من تصريحات المسؤولين اتجاهين رئيسيين لزيادة حصيلة إيرادات الدولة:
1) زيادة رسوم الخدمات وفرض أنواع الضرائب على قطاع الشركات.
2) إعادة هيكلة الدعوم، بهدف توجيهها لمستحقيها بما يتضمن تخفيض قيمتها الإجمالية، أو على الأقل الحفاظ على هذه القيمة دون ارتفاع لفترات زمنية طويلة.
وحسب تعريفات أهل الاقتصاد، فإن إصلاح عجز الميزانية العامة هو أحد أوجه الإصلاح قصير الأجل، لكونه لا يعالج المشكلة أو الاختلالات الموجودة في بُعدها وعمقها الاقتصادي، وإنما يتعامل فقط مع شقّها المالي الخارجي، وهذا مطلوب ومحمود، لكنه ليس كافيا في الوقت نفسه.
ما نحتاجه اليوم، بدرجة عالية من الأهمية، هو حضور معايير الإصلاح الاقتصادي بمفهومه الشامل في معية إصدار كل القرارات المتعلقة بالشق المالي، لأن المعايير الاقتصادية تستطيع أن تضبط القرارات المالية وتقوّمها بما يحقق المصلحة العليا للبلد، والتي يصعب الإحاطة بها من قبل العديد من المسؤولين والوزارات غير المختصة بالجانب الاقتصادي.
مثال على ذلك سياسة الصحة في تشديد قبول دخول أطباء جدد إلى البلاد للقطاع الخاص بما يفوق المعدلات الطبيعية لأي دولة خليجية (الكويت 6 - 12 شهراً، بينما أقل من أسبوعين في الدول الخليجية المجاورة)، هذه السياسة تؤدي إلى رفع كلفة استقطاب الأطباء للمراكز الطبية، وبالتالي رفع تسعير هذه الخدمات للمرضى، مما يرفع التضخم ويضر بالجميع، المواطن والمركز الطبي والدولة ككل، لكونها فقدت تنافسيتها لاستقطاب الكفاءات الطبية من الخارج.
وقد عانت الدولة قبل أزمة كورونا وبعدها من ارتفاع كبير ومصطنع في كلفة العمالة بسبب سياسات تشديد وتقييد غير منطقية لم تستوعب البعد الاقتصادي، فأدت إلى تضخم مضرّ في كلف البناء والزراعة والصناعة، حتى جاء النائب الأول وزير الداخلية الحالي، بوعي كبير، ليفتح سوق العمل ويضرب بجدية استثنائية مكامن الخلل في سوق العمل، المتمثلة في تجارة الإقامات، بدلا سياسة عقاب الجميع التي كانت متبعة سابقا.
تعتمد اقتصادات الدول المتقدمة على الضرائب، وتسعى حكوماتها جاهدة لتنمية اقتصاداتها، لأن ذلك ينمّي أرباح شركاتها، وبالتالي تزداد حصيلتها الضريبية، فتعيش في دوامة إيجابية يربح منها الجميع (الدولة والمواطن والقطاع الخاص). إن فلسفة السعي لتنمية الاقتصاد كمدخل أساسي غير مباشر لتنمية موارد الدولة المالية تختلف جذريا عن فلسفة السعي لتنمية الميزانية العامة للدولة بشكل مباشر على حساب المعايير الاقتصادية السوية.
ومع الأسف، نواكب اليوم بعض السياسات التي تتبنى فلسفة تنمية موارد الحكومة على حساب الاقتصاد ككل، فنرى حزما مختلفة من القرارات تستهدف القطاع الخاص، فقط لتأخذ من أرباحه فتحولها من جيب التاجر إلى جيب الحكومة، في معادلة صفرية إذا تم قياسها في ميزان الدولة ككل. وهي سياسة رابح خاسر أو win lose، ونعلم أن سياسة فرض الرسوم والغرامات وتسعير الخدمات تضر بالشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر من الشركات الكبرى التي تتأثر أكثر بالضرائب، مما يعني أن السياسات الحالية مضرة بشكل أكبر بالشريحة غير المستهدفة والتي تقوم الحكومة في سياسات أخرى مضادة بدعمها وتحفيزها! بينما لو قامت الحكومة اليوم بحكم سلطاتها المطلقة (التشريعية والتنفيذية) بفرض مجموعة حزم ضريبية على القطاع الخاص مبرمجة ومؤقتة زمنية بشكل صحيح، مصحوبة بمشاريع تنموية اقتصادية فورية ومتوسطة الأجل، ومواكبة يتحرك معها السوق وينمو بها الاقتصاد ويتوظف فيها أبناؤنا وبناتنا العاطلون عن العمل، فإن الحكومة بذلك تكون قد خطت في الاتجاه الصحيح وعظمت الأرباح للجميع، والجميع هو الدولة بشقيها العام والخاص، وهذا ما تسعى الدولة المتقدمة له win win.
إن المسؤولية والحمل ثقيلان اليوم على كاهل مجلس الوزراء في أداء الأمانة التي تقلدها من سمو الأمير، وتقع عليه أعباء كبرى في تحقيق الإصلاح المنشود والمتكامل الذي ترنو إليه أعين الكويتيين، بعد سنوات عجاف طويلة حُدنا فيها عن الطريق القويم، فنسأل الله لهم التوفيق والسداد والرأي الرشيد.
تعقيب: لـ «الصحة»نحو نهج مؤسسي في اتخاذ القرار بالوزارة
بينما ننتظر برنامج عمل الحكومة في قطاع الصحة، لا بُد من تأكيد ضرورة تبنّي نهج مؤسسي في اتخاذ القرارات داخل وزارة الصحة، لتجنّب القرارات السريعة وردود الأفعال التي قد تؤدي إلى أخطاء جسيمة تضر بالقطاع الطبي في القطاعين العام والخاص.
وفيما يتعلق بالقرارات المهنية والفنية، يجب ألا تُتخذ هذه القرارات في إطار ضيق داخل مكتب الوزير أو الوكيل أو المدير الفني، بل ينبغي أن تُعرض على المجلس الاستشاري الطبي، الذي يتكون من الوزير كرئيس، وعضوية رؤساء المجالس التخصصية الطبية، مثل الجراحة، والباطنية، والعيون، وغيرها، إضافة إلى مديري الصيدلة والتمريض والعلاج الطبيعي والمهن المساعدة. ويتولى هذا المجلس النظر في جميع القضايا الطبية والفنية، ويتخذ القرارات بشكل جماعي، مؤسسي، ومهني.
أما على صعيد القرارات الإدارية أو العليا في الوزارة، فيجب أن تُتخذ من خلال مجلس الوكلاء، الذي ينبغي أن ينعقد شهريًا، ويشمل في عضويته وكلاء، ومهندسين، وقانونيين، وإداريين.
ونطمح في المرحلة القادمة إلى المزيد من الشفافية من خلال نشر نتائج اجتماعات المجلس الاستشاري الطبي ومجلس الوكلاء عبر وسائل الإعلام، ليكون العاملون في قطاع الصحة والمجتمع على دراية بتوجهات الوزارة وقراراتها، لتكون مبنية على مؤشرات أداء قياسية تعكس الإنجازات الحقيقية، بدلاً من التركيز على صور الافتتاحات، وإن كانت تعزز الثقة لدى العامة.
*وزير الصحة الأسبق