طلب المنصب القيادي والسعي إليه
مع كثرة المناصب القيادية الشاغرة في الجهاز التنفيذي بدولة الكويت، وعدم تحديد معايير ومواصفات وشروط علمية وخبرات عملية لشغل الوظائف القيادية، وانتشار ظاهرة التعيينات الباراشوتية في بعض الوظائف القيادية، وبسبب ضغط كثير من أعضاء مجلس الأمة (سابقاً) وبعض المتنفذين والتيارات والأحزاب والتكتلات السياسية على بعض الوزراء والمسؤولين الحكوميين يتم تعيين المحسوبين عليهم في الوظائف القيادية، مثل وظائف الوكلاء والوكلاء المساعدين بالوزارات أو المديرين العامين ونوابهم في الهيئات والمؤسسات والإدارات الحكومية أو الوظائف القضائية وكبار المستشارين في سلك العسكري والسلك الدبلوماسي وسلك القضاء أو حتى في تعيين الوزراء في بعض الأحيان وخاصة مع كل تعديل أو تغيير أو تشكيل جديد للحكومة.
فهل يجوز طلب المنصب القيادي والسعي إليه أو الضعط على صاحب القرار لتعيين المقربين من المتنفذين ومن أعضاء من التكتلات السياسية المختلفة في هذه الوظائف القيادية؟ وما الآثار السلبية التي من الممكن أن تنتج عند تعيين من يسعى إلى فرض تعيين نفسه في هذه الوظائف القيادية الحساسة؟
كان كثير من السلف الصالح يحجم عن تولّي المنصب القيادي ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو أوذي في نفسه وأهله وماله وذلك خشية وخوفاً من تحمل المسؤولية، وقد عزف كثير من الأئمة عن تولي القضاء، بل قَبل بعضهم بالضرب والسجن على توليه، وهرب بعضهم من بلده كي لا يتولى القضاء.
وقد طلب الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، من عبدالله بن عمر أن يشغل منصب القضاء فاعتذر، وألحَّ عليه عثمان فأصر ابن عمر على اعتذاره، وسأله عثمان: «أتعصيني؟» فأجاب ابن عمر: «كلا، ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة: قاضٍ يقضي بجهل فهو في النار، وقاضٍ يقضي بهوى فهو في النار، وقاضٍ يجتهد ويصيب، فهو كفاف لا وزر ولا أجر، وإني لسائلك بالله أن تعفيني»، وقد أعفاه عثمان بعد أن أخذ عليه عهداً ألا يخبر أحداً، لأن الخليفة عثمان خشي إذا عرف الأتقياء الصالحون بذلك أن يتبعوه وينهجوا نهجه.
كما أنه قد عرض على عبدالله بن عمر إمارة المسلمين أكثر من مرة لكنه رفض، وكان حريصاً على جمع كلمة المسلمين، وليس ذلك فحسب فإنه كان يريد أن يحيا لعلمه، وكان ابن عمر يأبى أن يسعى إلى الخلافة إلا إذا بايعه المسلمون جميعا طائعين وليس بالسيف.
ويمكن إجمال أسباب عزوف أولئك الأئمة والصالحين عن الوظائف القيادية لعدد من الأسباب منها:
أن بعض الصالحين يرى نفسه ليس أهلاً لهذه الوظيفة، حيث إن الوظائف القيادية تحتاج سعة بال، وذكاء، وفطنة، وقد يرى الرجل الصالح والعازف عن هذه الوظيفة القيادية أن شروط شغل هذه الوظيفة لا تتوافر فيه أو تنطبق عليه، كما أنه يخشى ألا يؤدي العمل المطلوب منه، وفي ذلك وزر كبير وخطر عظيم ليس عليه فقط ولكن على عامة المواطنين، ولذلك كان السلف الصالح، رحمة اللّه عليهم، يمتنعون عن تولّي الوظائف القيادية مثل القضاء أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطرها.
وهناك بعض الأحاديث التي ورد فيها الوعيد والتخويف لمن تولى القضاء ولم يؤدّ الحق فيه، كحديث «إن الله مع القاضي ما لم يَجُر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان».
وحديث «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحقّ فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحقّ فذلك في الجنة».
وقد اختلف أهل العلم في جواز سؤال أو طلب الإمارة، أو القضاء أو ما أشبه ذلك من الوظائف القيادية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الجواز. القول الثاني: التحريم. القول الثالث: التفصيل.
أما القائلون بالجواز، أي جواز طلب الولاية أو الإمارة، فاستدلوا بقول يوسف، عليه السلام، حينما قال لملك مصر: «اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» [يوسف: 55]، فقد سأل الولاية، ومعلومٌ أنَّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا، ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وأن يوسف، عليه السلام، إنما طلب الولاية، لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في توليه للوظيفة القيادية، ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه، لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته ومؤهلاته من العلم والكفاية وغير ذلك من الصفات التي يستحقها صاحب هذه الوظيفة القيادية، كما قال يوسف، عليه السلام، فأما لو كان هناك من هو أفضل منه ويمكن أن يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك، فالأولى ألا يطلبها، لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تسأل الإمارة» وأيضاً فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها، دليلٌ على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه وأهدافه الخاصة فإن في ذلك فسادا لطالب الوظيفة القيادية، وكذلك فساداً للبلاد والعباد.
فقد سأل يوسف، عليه السلام، الولاية بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال، كما أن يوسف، عليه السلام، لم يزك نفسه بل ليعرف ملك مصر بنفسه ومؤهلاته وقدراته على القيام بهذه المسؤولية، ولأنه لا يعرف أحداً غيره يمكن أن يقوم بهذا العمل الجليل والمسؤولية العظيمة.
وأما القائلون بالتحريم، أي تحريم طلب الولاية أو الإمارة أو الوظائف القيادية، فقد استدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسأل الإمارة»، فقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم- أن تطلب أو أن تسأل الإمارة، وبيَّن بأنّ من أعطيها عن مسألة، وُكِل إليها، ومن أتته دون مسألة، أعانه الله عليها.
لذا فإن في تولي الشخص المناسب للوظيفة القيادية فضائل كثيرة، ولمن عمل بالعدل والإنصاف فيه وذلك لكثرة الخير الذي يجري على يد شاغل هذه الوظيفة القيادية بسبب حسن عمله وإتقانه لهذه الوظيفة المهمة وذات المسؤولية العظيمة.
وكما أوضحنا فقد اختلف أهل العلم في حكم طلب الولاية والوظيفة القيادية على ثلاثة أقوال، التحريم، والجواز، والتفصيل.
إلا أن الراجح في حكم طلب الوظيفة القيادية هو التفصيل في سبب طلبها، واختلاف طالبيها، فمن سألها لمصلحة نفسه، مع ضعف القيام بها، فسؤاله مانعٌ من تولي هذه الوظيفة القيادية لأن في ذلك إخلالاً لميزان العدل والإنصاف وشغل الوظيفة القيادية بشخص لا يستحقها بل إن توليه لهذه الوظيفة القيادية فيه إفساد للبلاد والعباد.
لذا أرجو أن يسهم هذا المقال في الحد من الممارسات السياسية غير المسؤولة من بعض المتنفذين من التيارات والأحزاب السياسية في الضغط على السلطة التنفيذية لتعيين المحسوبين عليهم في الوظائف القيادية سواء في السلك العسكري أو في السلك الدبلوماسي أو السلك القضائي أو وظائف الوكلاء والوكلاء المساعدين في وزارات الدولة أوالمديرين العامين ونوابهم في الهيئات والمؤسسات والإدارات الحكومية! وفي فعل ذلك ظلم للبلاد والعباد ودمار لمؤسسات الدولة واهتزاز لميزان العدل والمساواة بين أبناء الوطن الواحد واستغلال للمناصب القيادية لمصالح التيارات والأحزاب والقبائل والتكتلات السياسية وغياب للنزاهة والشفافية في اختيار القيادات ذات الكفاءة والفعالة.
ودمتم سالمين.