خلال زيارتي الأخيرة إلى دول البلطيق لحضور مؤتمر عولمة علم اللغة الاجتماعي، الذي عُقد في جامعة تالين بإستونيا، أتيحت لي الفرصة لاكتشاف الجوانب اللغوية والثقافية الفريدة لهذه المنطقة، وكانت الرحلة تجربة غنية على الصعيدين العلمي والشخصي، حيث التقيت أسماء لغوية عريقة، وتبادلنا الرؤى حول دور اللغة واللغويات في تشكيل الهوية المجتمعية.

لقد كانت زيارتي لإستونيا وليتوانيا ولاتفيا فرصة فريدة، فقد استمتعت بالاطلاع على التنوع اللغوي والثقافي العميق في كل من هذه الدول الثلاث، وكل لغة من لغاتهم- الإستونية والليتوانية واللاتفية- تعكس مزيجًا من التاريخ الغني والتقاليد المتجذرة، وتجسد ارتباطًا وثيقًا بالهوية الوطنية لكل بلد.

Ad

ولم تقتصر تجربتي في دول البلطيق على الجانب الأكاديمي فحسب، بل كانت أيضًا رحلة لاستكشاف هوية هذه الأمم من خلال لغاتها، وفهم كيف تسهم هذه اللغات في الحفاظ على تراثها الثقافي وتشكيل مستقبلها.

تنتمي اللغة الإستونية إلى عائلة اللغات الفينية الأوغرية، وهي قريبة من اللغة الفنلندية، لكنها تختلف بشكل كبير عن اللغات الهندو أوروبية التي تهيمن على أوروبا، ويعكس هيكل اللغة الإستونية ومفرداتها وصوتياتها جذورها الفريدة، مما يميزها عن جيرانها في البلطيق، وتعد اللغة أساسًا للهوية الوطنية، خاصة بعد كفاح إستونيا الطويل من أجل الاستقلال، أولاً من الامبراطورية الروسية، ولاحقًا من الاتحاد السوفياتي.

من ناحية أخرى، تنتمي اللغتان الليتوانية واللاتفية إلى الفرع البلطيقي من عائلة اللغات الهندو أوروبية، وتتميز اللغة الليتوانية بسماتها القديمة بشكل خاص، مما يجعلها واحدة من أقدم اللغات الهندو أوروبية وأكثرها محافظة.

وتحتفظ بالعديد من ملامح اللغة الهندو أوروبية البدائية، مما يوفر للغويين رؤى قيمة حول المراحل المبكرة لهذه العائلة اللغوية، وفي حين خضعت اللغة اللاتفية لتغييرات أكثر من الليتوانية، فإنها لا تزال تحتفظ بكمية كبيرة من خصائصها اللغوية التاريخية، وتعد كلتا اللغتين جزءًا لا يتجزأ من الهويات الوطنية لمتحدثيها، حيث تجسد التقاليد الثقافية والروايات التاريخية التي استمرت عبر قرون من الحكم والتأثير الأجنبي.

إن التنوع اللغوي في دول البلطيق ليس مجرد مسألة لغات مختلفة، بل هو مرتبط بعمق بالهوية والتجارب التاريخية لهذه الأمم، فقد كانت اللغة أداة قوية للحفاظ على الهوية الوطنية والتراث الثقافي، خاصة خلال فترات الهيمنة الأجنبية، وإحياء هذه اللغات والترويج لها في حقبة ما بعد التفكك من الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات يبرز أهميتها في تشكيل الهويات المعاصرة لإستونيا وليتوانيا ولاتفيا، وبالتالي، فإن المشهد اللغوي لمنطقة البلطيق هو شهادة على القوة الدائمة للغة في التعبير عن الهوية الثقافية وحفظها.