في ظلال الدستور: غرفة التجارة بين حرية واستقلال يكفلهما لها الدستور وتبعية مقترحة للسلطة
في كل عصر من العصور وفي كل بلد من بلدان العالم شخصيات عظيمة تترك لنا أكثر من غيرها في مجريات الأحداث وتطور الأمور ميراثاً طويلاً من الأعمال والإنجازات والإخفاقات، ولكنها تبقى وديعة للأجيال المتلاحقة تنهل منها العظة والعبر وترسم من خلالها مستقبلها، فأمة بغير ماضٍ لا حاضر لها ولا مستقبل.
وتحفل التجربة الديموقراطية في الكويت بأمثلة عظيمة من هذه الشخصيات، منها صاحب السمو أمير البلاد الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح والرعيل الأول أعضاء المجلس التأسيسي المنتخب من الشعب، الذين وضعوا الدستور بإرادة شعبية، فركزوا اهتمامهم على المواطن لا على السلطة، على حقوقه وحرياته التي تحدد إطاراً منطقياً لروابطه بها، فكان الدستور انتقالاً من المفاهيم التي تنظر إلى الدستور باعتباره وثيقة لتنظيم السلطة وبيان حقها في فرض أوامرها ونواهيها على الناس إلى ما يناقض ذلك من مفاهيم كانت غريبة وقت وضع دستور الكويت عن العالم الثالث، تضمن حقوق المواطنين وحرياتهم ضد عسف السلطة، فأصبح الدستور بذلك وثيقة تقدمية لحقوق الإنسان، بفضل حاكم مستنير والرعيل الأول أعضاء المجلس التأسيسي والأعضاء في غرفة التجارة والصناعة أيضاً، الذين أقاموا من وعيهم الحجر المكين للتجربة الديموقراطية في الكويت ومن ضمائرهم السياج المتين والملاذ الأمين للحريات العامة، ومن هذه الحريات حرية تكوين الجمعيات المنصوص عليها في المادة (43) من الدستور.
وقد حافظ على الدستور وعلى التجربة الديموقراطية في الكويت، شخصيات عامة كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، أعضاء مجلس الأمة في الفصل التشريعي الخامس، وأستعيد من الذاكرة ومن أوراقي المتفرقة في تاريخ التجربة الديموقراطية في الكويت مناقشات واسعة جرت في جلسة مجلس الأمة يوم الثلاثاء 23 مارس 1982، حول عبارة وصف بها دبلوماسي كويتي رفيع الديموقراطية في لقاء تلفزيوني بأنها ترف.
وكان لهذا الحديث دوي في الجلسة المذكورة حيث صعقت نفوس أعضائه تحت وطأته فاندلعت المناقشات وحمي وطيسها وتبلورت حرارتها في قرار برغبة أصدره المجلس بأن توعز الحكومة إلى المسؤول السياسي قائل عبارة «إن الديموقراطية ترف» بأن يقدم استقالته بناء على اقتراح برغبة قدمه النواب (جاسم العون ومبارك الدبوس ومشاري العنجري وبدر المضف وهاضل الجلاوي).
وقد بدأت المناقشات بكلمة من وزير الدولة، نيابة عن الحكومة قال فيها إن الحديث الذي أدلى به (الدبلوماسي) لا يمثل فيما يتعلق بالتجربة الديموقراطية إلا رأيه ولا يمثل الحكومة من قريب أو بعيد، وإن تجربتنا الديموقراطية مبنية على أساس سليم ومشاركة شعبية، وإنها ضرورة وتطور سليم في العلاقة بين الحكومة والشعب.
كما قال النائب د. خالد الوسمي في كلمته «أنا أؤمن بالحوار وإبداء الرأي، ولكن عندما يتناول الرأي التقليل من فكرة سامية استقرت في ضمير الشعب وتتبناها الحكومة فأعتقد أنه خطأ سياسي كبير».
ومن بين ما قيل من الكلمات التي ألقيت في هذه الجلسة ما قاله النائب المحترم جاسم الصقر في كلمته من «إن في ذلك تعريضاً وتجريحاً بالنظام الديموقراطي بالكويت مع العلم أن أحد معالم الكويت هي هذه الحياة الديموقراطية مع ما فيها من عيوب تبقى رمزاً حضارياً متقدماً في دول المنطقة وفي دول العالم العربي والعالم الثالث».
ومن بين ما قاله النائب محمد المرشد: «إن مجلس الأمة خطوة كبرى في المسيرة الحضارية، محذراً من خطورة ما قاله الدبلوماسي ومغبته».
ولعل أعضاء المجلس الحالي من قامات سوف تحتذي حذو قامات الفصل التشريعي الخامس، للتنبيه والتحذير من خطورة الاقتراح بقانون المطروح على المجلس في شأن غرفة تجارة وصناعة الكويت ومغبته على الحريات العامة وعلى رأسها حرية تكوين الجمعيات للحفاظ على الديموقراطية وعلى الغرفة كرمز حضاري متقدم في دول المنطقة، وإن في تجريح الغرفة وهي أحد مكونات التجربة الديموقراطية في الكويت والتعريض بها، سوف يؤثر على مكانتها بين غرف المنطقة وفي العالم كله وما يستتبع ذلك من النيل من مكانة الكويت الإقليمية والدولية، فالغرفة إرث شعبي ديموقراطي لا يجوز التضحية به بأي حال من الأحوال.
دور السلطة التشريعية
ذلك أن مفهوم الحكم الديموقراطي الذي تناولناه في مقال سابق لنا على هذه الصفحة أوسع نطاقاً في احتكار السلطة التشريعية للسيادة الشعبية، وإن الأمة مصدر السلطات جميعاً لم تتنازل عن سيادتها لمن يمثلونها من النواب، بل هم وكلاء عنها، وإن الوسائل والركائز التي تمارس بها الأمة سيادتها، منظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها غرفة تجارة وصناعة الكويت، بما يوجب على مجلس الأمة، أن يوفر لها الاستقلال لا التبعية، باعتبار أن منظمات المجتمع المدني تتلاحم مع المجلس النيابي كشريك أصيل له في تمثيل الإرادة الشعبية فيقع على عاتقه حمايتها وتعضيدها بالحماية من عسف السلطة، لا بتقرير تبعيتها للسلطة، كما فعل الاقتراح المدرج على جدول أعمال المجلس، والذي تتناقض فلسفته مع الفلسفة التي يقوم عليها الدستور، بما يخالف روح الدستور، فضلا عن المادة (43) منه.
وغني عن البيان الحكم الديموقراطي هو أن يحكم الشعب نفسه بنفسه في مجلس نيابي ينتخبه الشعب ليتولى المساءلة السياسية للوزراء الذين يتولون سدة الحكم.
وقد جاء في المذكرة التفسيرية للدستور: «ومن وراء التنظيم الدستوري لمسؤولية الوزراء السياسية، توجد كذلك وبصفة خاصة رقابة الرأي العام التي لا شك في أن الحكم الديموقراطي يأخذ بيدها ويوفر مقوماتها وضماناتها، ويجعل منها مع الزمن العمود الفقري في شعبية الحكم، وهذه المقومات والضمانات في مجموعها هي التي تفيء على المواطنين بحبوحة من الحرية السياسية».
فلا غرو أن تتبوأ منظمات المجتمع المدني في الكويت وعلى رأسها غرفة التجارة، وهي إحدى مكونات الرأي العام، مكانها اللائق بها في الدستور، لذلك يفترض في مجلس الأمة، وهو محراب الديموقراطية وهيكلها أن يقف مدافعاً عن غرفة التجارة والصناعة، باعتبارها أحد مكونات البناء الديموقراطي ومكونات الرأي العام، وأحد مقومات المسؤولية السياسية.
ولا أجد في ختام هذا المقال، سوى التذكير بأبيات من الشعر وجهها النائب الراحل محمد المرشد إلى الدبلوماسي الكويتي في الجلسة المذكورة يقول فيها:
تخذتكُمُ دِرعاً وتُرساً لتدفعوا
نِبَاَل العدا عنِّي فكنتُمْ نصالَها
وقد كنتُ أرجو منكُم خيرَ ناصرٍ
على حينِ خذلان اليمين شِمالَها
فإنْ أنتُمُ لم تحفظوا لمودّتي
ذِماماً فكونوا لا عليها ولا لَها
باعتبارها أنسب ما يمكن أن يقال لمن قدموا الاقتراح بقانون سالف الذكر.