عرفته منذ أكثر من ثلاثين عاماً في اجتماع لمجلس إدارة شركة ألمانية، وقد كنت حينها أمثّل حصة شركة الاستثمارات الوطنية، وكان «أبوصقر» يمثّل حصة شركة الساحل للاستثمار، وقد لفتت نظري دقة ملاحظاته وقدرته على كشف الأجندات المخفية، لينتهي الاجتماع باعتذار الإدارة التنفيذية الألمانية عن تقاعسها في توفير معلومات وبيانات ضرورية لاتخاذ قرار يتعلق بتحديث المصنع، مما أدى إلى تأجيل اتخاذ القرار إلى الاجتماع المقبل بسبب عضو مجلس إدارة شركة زيلر بلاستيك الألمانية الكويتي حمد عبدالعزيز الصقر.
راقبت ما حدث في ذلك الاجتماع بدهشة، فكيف تمكّن هذا الرجل من قلب الاجتماع بهذه الاحترافية العالية في التحليل وبسلاسة وهدوء دون استعراض، فجعل الألمان يخجلون ويعتذرون ويعدون بأن يرسلوا تقريرًا شاملًا متكاملًا قبل الاجتماع المقبل.
أشعر بامتنان كبير لأنني حظيت بفرصة التعلّم منه خلال هذه الاجتماعات واجتماعات أخرى شبيهة متعلقة باستثمارات خارجية مشتركة عن طريق شركة هيلارب، فمنذ خريف 1990 ولثلاثة أعوام متتالية، وأنا أراقب وأتعلّم من هذا الرجل.
تعلمت منه كيف أقرأ وأبحث بين السطور بعمق، متى وكيف أطرح السؤال، كيف يكون المرء شجاعاً وصريحاً وصادقاً وعادلاً مهنياً من دون مزايدة.
ثم في عام 1996، وبحُكم صداقته لزوجي فيصل النصف، كان لي شرف التعرف على حمد عبدالعزيز الصقر عن قُرب، فتعرفت على كل المزايا الأخرى التي يتمتع بها هذا الرجل الإنسان المتعمق بالمعرفة المهتم بقضايا الوطن الممتلئ ثقافة وخلقاً وإنسانية ووطنية. كان متواضعا تواضعاً جّما، بل لو أردنا أن نستخدم كلمة مرادفة للتواضع فستكون اسمه.
كان مرهف الحس يهتم بمشاعر من حوله، ولم تكن تغريه بهرجة الدنيا، ولم يسعَ يوماً لمنصب قط، بل يمكن القول بأنه كان زاهداً في المناصب، مترفّعاً عن المكاسب الآنية، ومتمسكًا بمبادئه.
كان باحثاً ومتابعاً في الثقافة والشأن العام. إن تعرّف على ضيف ما تجده مهتماً بمعرفة المزيد عنه وعن بلده، فهو منصت متعاطف، ولكنه أيضا يفاجئنا أثناء الحديث بإلمامه بتفاصيل دقيقة عن البلد أو المدينة قد يجهلها الضيف نفسه، فلطالما تكررت أمامنا هذه الجملة «لم أكن أعلم هذه المعلومة عن بلدي»، ومثل هذه المواقف كانت تجعل الضيف يشعر بالترحيب والألفة.
إن سألته في أي شأن كان يجيبك إجابة وافية، فمن الاقتصاد والسياسة إلى الرياضة والأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، وحتى في السينما والتكنولوجيا التي لم يكن يستخدمها. إنما هو موسوعة معرفية شاملة دون تباهٍ أو استعراض.
كان ينأى بنفسه عن الجدل، لذلك كان يكتفي بطرح وجهة نظره إن سئل فقط، ويترك الجدل لغيره. وإن التبس عليه موضوع ما، وهو أمر نادر حدوثه، تجده يلزم الصمت والإصغاء، ثم يحرص على البحث في المعلومة والتأكد منها، ومن ثم في اللقاء القادم تجده وقد جاءك بتفاصيل عن تلك المعلومة المبهمة، فإن نسيت أنت أمرها فهو لا ينسى. وبرغم كل هذا الزخم من العلم والمعرفة كان بشوشاً محباً للطرفة والأحاديث المسلية.
مع الناس كان رحيمًا عطوفاً مهتماً، وخصوصًا بالصغار والعاملين والضعفاء والفقراء منهم، يسألهم عن شؤونهم واهتماماتهم، وينصت لهم باهتمام كبير. وبرغم مشاغله الكثيرة وازدحام يومه، فإنه كان لا يتأخر في الرد على المكالمات أو الاستجابة لطلب ما.
كان أبو صقر يحرص على عمل الخير بتكتم شديد، وخصوصًا في مجال العلم والتعليم والصحة.
حرص على متابعة أنشطة «لوياك» ودعمها، وكان يهتم خصوصًا بالأنشطة والبرامج المقدّمة في المجتمعات المهمشة بالدول العربية. عندما علم عام 2019 بمشروع «لوياك» مع أطفال اللاجئين السوريين في مخيم الفاعور بالبقاع اللبناني سأل عن تفاصيل المشروع باهتمام كبير، وقدّم الدعم المطلوب.
منذ شهور قريبة، علم أبو صقر باهتمامي بشأن شاب عربي متفوق في دراسته يرغب في إكمال دراسته الجامعية في الولايات المتحدة الأميركية، فساعده في الحال، وهكذا تحقق حلم هذا الشاب في غضون أيام قليلة.
إن رحيل حمد عبدالعزيز الصقر خسارة كبيرة ليس لأهله وصحبه والكويت فحسب، وإنما لآلاف من الناس في الوطن العربي ودول أخرى.
وبالنسبة لي، فإن رحيل «أبو صقر» هو خطب جلل ومصاب عظيم، ليس لأننا (زوجي وأنا) سنفتقده على المستوى الشخصي فحسب، بل لأنني أرى أن رحيل عملاق مثله يعني غياب منظومة من المبادئ والقيم الإنسانية تجسدت في شخصه نحن نفتقدها في هذا الزمن المتوحش.
إنه خطب جلل، لأن رحيل هذا العملاق إنما هو إنذار آخر بأن المساحات الآمنة في الوطن قد تقلّصت برحيله.
ولأن العبء أصبح أثقل على كاهلنا والتحدي بات أكبر، فكيف لنا أن نجد لأبنائنا وأحفادنا مثل تلك النماذج الإنسانية الاستثنائية التي نقتدي بها.
أسأل الله أن يرحمك يا أبا صقر، وأن يجعل مثواك الجنة، وأن يلطف بنا ويلهمنا وأهلك وصحبك الصبر والسلوان.