من أهم متطلبات إصلاح نظام المالية العامة التي يجب على الحكومة إنجازها قبل عودة الحياة البرلمانية، الارتقاء بشفافية المالية العامة كوسيلة لضمان حسن الحوكمة والحد من احتمالات الفساد، وتعزيز كفاءة الإنفاق والتخطيط التنموي.

ومن شأن هذه الخطوة - الى جانب إصلاحات أخرى - أن تسهم في تخفيف النزعة الشعبوية للبرلمان، حيث إن إتاحة المعلومات والبيانات المالية بشكل أفضل يساعد على تفهّم الوضع المالي للدولة وتعزيز مصداقية الحكومة وتأكيد قدرتها على إدارة الموارد المالية، مما سيترتب عليه أيضا تسهيل إجراء المزيد من الإصلاحات مستقبلا في جوانب النفقات وإدارة الضرائب.

Ad

ويتفق الخبراء الماليون على أن الارتقاء بالشفافية لا يعني نشر أرقام الميزانيات فقط، بل يتطلب إصلاحات واسعة يمكن عرضها ضمن إطارين، أولهما توفير معلومات دقيقة ومفصلة وملائمة زمنيا وشاملة تضم البيانات الفصلية والسنوية للحكومة ومؤسساتها التابعة من حيث التدفقات النقدية وحجم الأصول والاحتياطيات والديون، كما يجب عرض هذه المعلومات بطريقة مفهومة ومبسطة للعامة وليس للمختصين فقط.

وفي هذا الجانب يذهب البعض الى أن تحقيق الشفافية يستدعي أيضا توفير معلومات مفصلة عن المؤشرات والمخرجات النهائية التي يؤمل تحقيقها خلال فترات تنفيذ الميزانيات السنوية ومتوسطة الأمد.

أما الإطار الثاني، فيتعلق بتطوير مؤسسات مستقلة وآليات مناسبة لتحقيق الفائدة المرجوة من توفير المعلومات، بحيث يمكن محاسبة المسؤولين الحكوميين المقصرين وتشخيص مواضع الخلل. وتشمل هذه الآليات الاحتكام الى تدقيق مستقل خارج الجهاز المشرف على تنفيذ برامج الميزانيات، وتمكين الإشراف التشريعي المناسب، والمشاركة الشعبية العامة عن طريق الأفراد أو مؤسسات النفع العام.

وفي عالم اليوم يوجد عدد من مؤسسات ومراكز الأبحاث الدولية، مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والبنك الدولي، تعد الدراسات وتضع الممارسات والمعايير المثلى best practices للشفافية، كما يقدم بعضها الدعم الفني للدول الراغبة بإصلاح نظامها المالي. كما تجري مؤسسات، مثل البنك الدولي ومنظمة الشراكة الدولية للموازنة (IBP)، مسوحات سنوية لقياس ومقارنة مستويات الشفافية وكفاءة نظم المالية العامة والفساد المالي لدول العالم.

ومن الملاحظ أن الكويت، خلافا لمعظم دول العالم الحر ذات النظام الديموقراطي، لا تسهم في أي من هذه المسوحات، بل تبدي الكثير من التحفظ والتحوط تجاه مبادرات المؤسسات الدولية لتقييم وإصلاح نظامها المالي. ما سبق يوضح أن هناك الكثير من الجوانب الفنية التفصيلية التي يمكن الأخذ بها للارتقاء بشفافية نظام المالية العامة في الكويت، والتي يمكن إنجازها بالتعاون مع المؤسسات الدولية المختصة. ومن بين الإصلاحات المطلوبة في هذا السياق:

• زيادة دقة وتفصيل البيانات المالية لجهات مثل الخارجية والداخلية والدفاع والديوان الأميري.

• زيادة دقة وتفصيل بيانات الاحتياطي العام وصندوق الأجيال القادمة، مع مراعاة وضع قواعد واضحة لكيفية تسييل واستخدام هذه الاحتياطيات.

• توسعة نطاق عرض بيانات الميزانيات العامة باستخدام تصنيفات جديدة، مثل التصنيف الوظيفي Functional classification والبرامجي Program classification والمناطقي Regional classification، مما يسهم في تسهيل تحديد أولويات التخطيط والإنفاق.

• وضع أسس واقعية لتقدير الإيرادات النفطية باستخدام توقعات الأسعار التي تنشرها مؤسسة دولية موثوقة أو بيت خبرة عالمي، على أن يتم تحديد الإيرادات التي يتم رصدها للميزانية وللاحتياطي في خطوة لاحقة.

• دعوة المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني للمشاركة في اجتماعات مناقشة الميزانيات، كما كان متبعا في الثمانينيات، عندما كانت وزارة التخطيط تعقد اجتماعات لمناقشة الخطط الخمسية.

• المشاركة في المسوحات السنوية التي تجريها بعض المؤسسات العالمية المختصة، مثل الشراكة الدولية للموازنة والبنك الدولي لتقييم درجة شفافية الموازنة وقياس مدى التقدم في تطويرها.

• تطوير البنية التحتية للبيانات واستخدام الأنظمة التقنية الحديثة لجمع وتوزيع المعلومات المالية بصورة أكثر دقة وأقل بطئا.

وقد تكون إحدى أهم العقبات التي ستواجه محاولة تحقيق المزيد من الشفافية مقاومة البيروقراطية الحكومية ذاتها لها، بسبب تخوّفها من الانتقاد وكشف الأخطاء وجوانب القصور وضعف القدرات الفنية في مجال جمع البيانات والمعلومات وتصنيفها.