فتح توجّه وزارة المالية لطرح مناقصة تستهدف عدالة تقييم أملاك الدولة من الناحية المالية - والمقدّرة حاليا بـ 121.8 مليار دينار، حسب القيمة المسجلة لعام 2023، مع توقّع أن يفضي التقييم الى مضاعفة القيمة المالية للمعايير السوقية - البابَ أمام تساؤلات حول القيمة الاقتصادية الحقيقية لأملاك الدولة وليس فقط قيمتها المالية.
فحسب ما نشرته الزميلة «الراي» منتصف الشهر الماضي عن أن «وزارة المالية تسعى لإعادة حصر أصول الدولة العقارية، عبر إجراء جرد دقيق وشامل للتقييم العادل لأصول كل وزارة أو إدارة حكومية، وذلك لإحكام الرقابة على الموجودات الفعلية ومدى مطابقتها للسجلات، ودرجة توافقها مع الاحتياجات الفعلية لأداء الأعمال أو الإنتاج، حتى تكون هناك قرارات مالية صحيحة بشأن هذه الأصول»، فإننا نتحدث عن نوعين من الأراضي، الأول لا أثر لإعادة تقييمها ماليا، وهي الأراضي التي تستغلها جهات حكومية لأغراض سيادية، كالأراضي التابعة للجهات العسكرية أو القطاع النفطي أو لأغراض خدمية غير تجارية، كأراضي الرعاية السكنية والمستشفيات العامة والجامعات والكليات الحكومية.والثاني يعد أثر عوائد التقييم المالي فيها جزءا محدود الأهمية مقارنة بالعوائد الاقتصادية غير المستغلة، خصوصا أراضي الهيئة العامة للصناعة أو الأراضي لإدارة أملاك الدولة وعقود الانتفاع ومناطق الشاليهات، فضلاً عن الحيازات الزراعية والحيوانية التي توزعها الهيئة العامة للزراعة.
عوائد ضائعة
ويفتح الحديث عن أملاك الدولة باب ضرورة مراجعة العوائد الاقتصادية الضائعة، وليست المالية فقط، فبينما حققت إيرادات أملاك الدولة الإجمالية في السنة المالية 2023 - 2024 نحو (125 مليون دينار)، أي حوالي 6 بالمئة من إجمالي الإيرادات غير النفطية في الميزانية، وهي عوائد لا شك في أنها ضئيلة، حتى لو تمت مضاعفتها أكثر من مرة، وقد يكون العائد الاقتصادي من رفع أسعارها سلبيا على الاقتصاد، لا سيما في آثاره التضخمية، فضلاً عن أن الدولة لا تنجرف في التقييم مع الأسعار السوقية المرتبطة بالعديد من المظاهر غير الصحية، كالاحتكار أو المضاربات أو حتى التقييمات غير العلمية، ومع ذلك يفترض أن تكون معالجة أوضاع أملاك الدولة إحدى أدوات معالجة اختلالات الاقتصاد، لا سيما فيما يتعلق بسوق العمل وتكاليفه أو التركيبة السكانية، أو رفع حجم القطاع الخاص المنتج في الناتج المحلي الإجمالي.
أول بديل
فأملاك الدولة يجب أن تكون أول بديل متوافر للإدارة العامة التي تشتكي دوما من ارتفاع كلفة الرواتب في الميزانية السنوية، فتفتح الفرص المتاحة للعمل للمبادرين من الشباب الكويتيين الذين يعانون شُح الأراضي أو ارتفاع أسعارها بشكل يستهلك ما بين ثلث ونصف رأسمال أي مشروع صغير أو متوسط في سداد الإيجارات أو الخلوات، مما يعرقل فئة كبيرة منهم عن المبادرة، وبالتالي يفقد الاقتصاد الكويتي جانباً مهماً من فرصة تعديل اختلال سوق العمل، بسبب احتكار أراضي الدولة.
ولعلنا عندما نستعرض جانبا من المشاريع الصناعية التي يفترض أنها مخصصة للمبادرين في الشدادية أو النعايم الصناعيتين أو صبحان الغذائية الى ما يوازي ربع قرن من الزمان وحتى اليوم، نجد أنه لم يتم الانتهاء من تجهيز بنيتها التحتية وتوزيعها، وهي كلها لا توفر أكثر من 3 آلاف فرصة عمل، وهو رقم ضئيل مقارنة مع 250 ألف شاب كويتي مقبلين على سوق العمل خلال 5 أو 6 سنوات قادمة.حلول متصلة
كما أن معالجة أوضاع أملاك الدولة تكتنف بين طياتها حلولاً متصلة بمسائل اقتصادية واجتماعية، مثل كبح التضخم والحد من الاحتكار وخلق البيئة الصحية للمنافسة في السوق، من خلال طرح الأراضي للمبادرين وفق شروط وعقود قانونية توجب على كل من ينتفع بأملاك الدولة وأراضيها - سابقا ولاحقا - تشغيلها مباشرة، أو على الأقل من خلال «مطور عقاري» من دون وسطاء عقود الباطن يرفعون كلفة التشغيل عبر الإيجارات الوهمية على المستثمر أو المشغل الحقيقي، مما ينعكس على خفض جاذبية المشاريع الصغيرة والمتوسطة في البلاد، فضلاً عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات في السوق، وبالتالي التضخم، وهذه من المثالب في ملف أملاك الدولة التي تتطلب موقفاً لمنع ظاهرة ذات أبعاد احتكارية وآثار تضخمية تضر المبادرين والمستهلكين في السوق، وتخلق بيئة ضعيفة المنافسة يترتب عليها ضعف في الجودة ربما بشكل أعمق مما يتسبب فيه ضرر عدم تحصيل الدولة لإيرادات مقاربة لأسعار السوق من أملاكها.
إصلاحات أعمق
ولعل مراجعة الفرص الاقتصادية لأملاك الدولة تفتح الباب لإصلاحات أعمق، تتمثل في منع انحراف الحيازات الزراعية والحيوانية التي منحتها الدولة لمن يفترض أنها لتحقيق أغراض الأمن الغذائي، إلا أن أوضاعها انحرفت بسبب التنفيع السياسي وسوء الرقابة الحكومية الى حيازات شخصية أو تجارية بعيدة عن الغرض الأساسي الذي منحته الدولة، الى جانب الانحراف في استغلال الأراضي الصناعية أو الخدمية عن طريق التلاعب في أغراضها، لتتحول الى تجارية، وهنا يمكن أن تتوسع الإصلاحات في ملف أملاك الدولة، لتصل الى انتفاء الغرض من الانتفاع مثلاً من الشاليهات بشكل شخصي، إلى إقامة منتجعات وطنية تستهدف توطين الأموال التي ينفقها الكويتيون في دول الخليج الأخرى، فضلاً عن استقطاب جانب من السياحة الخليجية، لا سيما العائلية الى الكويت، بكل ما يحققه هذا الإصلاح في ملفات أملاك الدولة من استثمارات محلية وفرص عمل مباشرة أو غير مباشرة للشباب الكويتيين عندما نعيد استثمار أملاك الدولة بمنظور اقتصادي لا يتوقف عند تحقيق العوائد المالية، حتى وإن كانت ضرورية.
صناعة لا جبايةدور الدولة الاقتصادي أسمى من أن يكون مقيّما للعقارات أو حتى جابيا للأموال، فدورها في إطار مراجعتها لأملاك الدولة يتمثل في صناعة الفرص للمبادرين، وتحفيز بيئة الاستثمار وتوفير مناخ أقل بيروقراطية في الإجراءات الحكومية وأكثر مرونة في التمويلات المصرفية، بحيث تكون الصرامة في اتجاه حفظ حقوق الدولة والمجتمع، من خلال الالتزام بالأغراض التي منحت الدولة الأرض للمستثمر، ليستثمر فيها ومنع الممارسات الاحتكار التي تقلل المنافسة في السوق، وفي كل الأحوال بما يصب في مصلحة معالجة اختلالات الاقتصاد، وأبرزها سوق العمل... هذه عوائدها أضعاف العائد المالي.