فراقية حمد الصقر
فقدت الكويت، برحيل القامة حمد عبدالعزيز الصقر، شخصاً استثنائياً يصعب أن يتكرر بشخصيته المشعّة معرفةً وعطاءً وتواضعاً، وهي الشخصية التي امتد وهج تأثيرها بفعل أعماله الناصعة ومسيرته الواسعة، على الرغم من شُحّ ظهوره الإعلامي.
ومع نشوئه في أسرة سياسية بامتياز، إذ كان جدّه رئيساً لمجلس الشورى 1921 ووالده أول رئيس لمجلس الأمة 1963، إلّا أنه رفض كل عروض المشاركة في العمل الحكومي، إذ آثر العطاء عبر بوابة الاقتصاد، الذي كان أبرزه مساهمته في إدارة البنك الوطني، ليصبح بذلك واحداً من أقوى مؤسسات الشرق الأوسط، متصدراً قائمة المؤسسات الكويتية، وهي نتيجة سنوات طويلة من العطاء قاربت الخمسين عاماً، بدأت عام 1975 ولم تنتهِ إلا في شهر مارس الماضي، عندما قرر أن يخلُد إلى الراحة في أيامه الأخيرة، بعد بلوغه الثمانية والثمانين عاماً، في رسالة مليئة بمضامين العمل وقدرة الإنسان على العطاء إلى اللحظات الأخيرة.
كان الفقيد شهماً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، ولا أدلّ من أعمال الخير المتواصلة التي كان يرعاها، مع إصراره على سرّيتها وعدم إفشائها، على الرغم من سخائها الكبير، فقد كنت شاهداً شخصياً على قوائم طويلة من تبرعاته للأعمال الخيرية الإنسانية بشتّى أنواعها في تلبية طلبات العلاج والتعليم والسكن ومساعدة الأسر المتعففة للمحتاجين بشكل إنساني متجرّد، وهي الأعمال التي انتقلت أخيراً من الحالة الشخصية إلى المؤسسية، بإشهار مبرة عبدالعزيز الصقر قبل 3 أشهر، لتضطلع بمسؤولية العمل الخيري المؤسسي والمنظم، ولتكون شاهداً خالداً على شهامة هذا الإنسان النبيل في حياته وبعد رحيله.
وفي الشأن الكويتي العام، كانت آراؤه غاية في النضج والصراحة، إذ لم يكن يقيم وزناً للمجاملات في حديثه عن الشأن العام تحديداً، وهو الحديث الذي كان يعبّر به بوضوح عن حزنه لواقع وطنه الذي فقد بوصلته، على الرغم من قدراته الكامنة، وخشيته من المستقبل في خضمّ المتغيرات، مع أسفه لتفريط الكويت بفرصة تاريخية للنهوض بعد الاحتلال، وهي الفرصة التي تضمّنها خطاب والده التاريخي بمؤتمر جدة، والتي ارتكزت على أهمية الحريات بأنواعها ومصالح الشعب في خريطة النهوض، وكم تمنّيت منه أن يقوم بكتابة مذكراته وآرائه الشخصية لما لديه من مخزون معرفي وتحليلي هائل، إلّا أنه كان يرى في عمله المهني خدمة أكبر لوطنه.
ولعل من الجوانب المشرقة في شخصيته اهتمامه الأصيل بالثقافة والفنون والآداب، منها حفظه وفهمه التام لقصيدة «فراقية ابن زريق» الخالدة في الأدب العربي، والتي كتبها ابن زريق البغدادي في غربته بالأندلس التي هاجر إليها سعياً للرزق قبل أكثر من ألف عام، والتي وجدت معه بعد رحيله، لتكون القصيدة اليتيمة لهذا الشاعر بمعانيها وصياغتها المؤثرة، والتي كنّا نستمتع بسماعها منه، وهي القصيدة التي يختمها بالبيت التالي:
وَإِن تنل أَحَدَاً مِنّا مَنيَّته
فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ؟
وبرحيل جسده عنّا، لا يسعنا إلا أن نكرر البيت السابق، ونعزي الكويت وأسرته وأصدقاءه وأنفسنا بفقدان هذه القامة، وعزاؤنا أن الملهمين الرائعين لا يغادرون الحياة، فهُم مصابيح عطاء إنسانية غير ناضبة.