«إنَّ الجبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ»، مثَل عربي قديم، فالحتفُ هنا هو الهلاك، وهو قول يُشير إلى أن الحَتْفَ إلى الجَبَان أسرعُ منه إلى الشجاع، لأنه يأتيه من حيث لا مَدْفَع له، ويقال لمن يجُبن عن فعل أمر، إذ تكون خسارته من حيث لا يعلم، أما الشجاع الذي لا يتردد في فعل أمر، فهو متوقعٌ الربح والخسارة، وأيضاً يُضرب في قلة نفع الحذر من القدر، فأول من قاله عمرو بن أمامة في شعر له عندما علم بأنه سيُقتل، فقال في ذلك:

لَقَدْ حَسَوْتُ الموتَ قبل ذَوْقِهِ

Ad

إنَّ الجبانَ حَتْفُه مِنْ فَوْقِهِ

كُلُّ امْرِئٍ مُقَاتِلٌ عَنْ طَوْقِهِ

وَالثَّوْرُ يَحْمِي أنْفَهُ بِرَوْقِه

وقوله حسوت الموت قبل ذوقه، فالذوق مقدمة الحسو، والاحتساء الشرب على مهل، فنقول احتسيت القهوة، فهو قد وطّن نفسه على الموت كمن لقيه عياناً صُرَاحاً‏، وكلّ يدافع نفسه وأهله بأقصى طاقته، وبمقدار ما يمكن له أن يفعله، كالثور يدافع عن نفسه بقرنه.

فالجُبن صفة مذمومة، وهو لا يصيب إلا ضعيف القلب، والله سبحانه وتعالى حذّر من الجبن حين قال «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، أما الرسول ﷺ فذمّ الجبن والبخل ونهى عنهما قائلاً: «شرُّ ما في الرجل شحٌّ هالع، وجبن خالع».

وقد وصف ابن عباس الجبن قائلاً: هناك طبائع ركبت في الإنسان تركيب الجوارح، فاعلم أنَّ الشجاع يقاتل عمَّن لا يعرفه، والجبان يفرُّ عن عرسه، وأنَّ الجوّاد يعطي من لا يلزمه، وأنَّ البخيل يمسك عن نفسه، حتى أن الشاعر قال في ذلك:

يفرّ جبان القوم عن عرس نفسه

ويحمي شجاع القوم مَن لا يناسبه

وقال هانئ الشيباني لقومه يوم ذي قار يحرّضهم على القتال: يا بني بكر، هالك معذور، خير من ناجٍ فرور، المنيّة ولا الدنيّة، استقبال الموت خير من استدباره، الثغر في ثغور النحور خير منه في الأعجاز والظهور، يا بني بكر، قاتلوا، فما من المنايا بدٌّ، الجبان مبغَض حتى لأمِّه، والشجاع محبَّب حتى لعدوه.

وهناك رواية طريفة لأبي دلامة قال فيها: كنت مع مروان أيام الضحاك الحروري، فخرج فارس منهم فدعا إلى البِراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم ثانٍ فقتله، ثم ثالث فقتله، فانقبض الناس عنه، وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم. فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف؟ قال: فلما سمعت عشرة آلاف هانت عليَّ الدنيا، وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف، وبرزت إليه، فإذا عليه فرو قد أصابه المطر فارمعلَّ أيّ تهدل، ثم أصابته الشمس فاقفعلَّ فانكمش، وله عينان تتقدان كأنهما جمرتان، فلما رآني فهم ما الذي أخرجني، أي المال، فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول: وخارج أخرجه حبُّ الطمع، فرَّ من الموت وفي الموت وقع، من كان ينوي أهله فلا رجع... فلما رأيته قنَّعت رأسي، وولَّيت هارباً.