اتخذت الحكومة إجراءات إصلاحية تصحيحية، دوافعها محاربة الفساد وإيقاف الفوضى والتلاعب وإهدار المال العام مثل فرض البصمة الثالثة، وفسخ عقد عافية للتأمين الصحي الخاص بالمتقاعدين وربات البيوت لمدة سنة.

طبعا الحكومة كالعادة لم تمهِّد ولم تتبع هذا القرار بشرح واف ومقنع بأسباب منعه مع سهولة ومنطقية هذه الأسباب، إذ إن هناك الكثير من حالات التلاعب الصارخ التي يتعرض لها المتقاعدون من بعض المستشفيات الخاصة، وهناك مبالغة في فرض عمليات التحاليل والأشعات والفحوص على المريض مع عدم الحاجة، فضلا عن المبالغة في صرف الأدوية خصوصا منها غالية الثمن مثل الكولاجين وغيره لاستنفاد رصيد التأمين وإفادة شركات الأدوية والمختبرات.

Ad

لا بد من إيقاف كل هذه الفوضى ووضع ضوابط وترتيبات مع فرض مخالفات باهظة وصياغة أنظمة صارمة مانعة لأي عملية تلاعب واستغلال، ويمكن في هذا الصدد دراسة تجارب الدول القريبة والبعيدة التي نجحت في ضبط هذه الأمور مما تتوافر معه بيئة صالحة لتطبيق التأمين الصحي بلا فوضى وفساد.

علما أن هذا الانضباط والتنظيم الصارم والإجراءات المانعة من التلاعب لا توفر البيئة المطلوبة للتأمين الصحي للمتقاعدين فقط، بل تمهد لتعميم التأمين الصحي لجميع المواطنين وخصخصة القطاع الصحي برمَّته وكذلك توفير البيئة لخصخصة التعليم، والإسكان، والكهرباء والماء، والبريد والمواصلات والموانئ والقطاع النفطي حتى لا يكون مصير خصخصة أي قطاع من هذه القطاعات كمصير التأمين الصحي للمتقاعدين الذي نخرت فيه العشوائية وعمليات التلاعب والفساد. إذاً فليكن موقف الحكومة الآن محكوماً بنظرة شاملة وعميقة وبعيدة المدى للإصلاح والتنظيم، بحيث ينزلق قطار الخصخصة على قضبان وسكة حديد صلبة محكمة، وتتوافر فيها كل شروط الأمان والضمان والجودة الفائقة. فإذا توجهت وأعلنت الحكومة هذا الهدف، وحشدت له كل مقومات النجاح، وشرعت في التشاور والتدارس مع ذوي الخبرة في الداخل والخارج، وبالأخص في دول الخليج العربي، فإن عملية إيقاف التأمين الصحي للمتقاعدين الأخيرة ستفتح آفاقا تطويرية مستحقة للمستقبل، تخلصنا من كل سلبيات المرحلة الراهنة، تلك السلبيات المستوطنة في كل المجالات، والأهم أن هذا التوجه سيقطع لسان كل خطيب يشكك في نوايا الحكومة وإثارة مخاوف المواطنين منها، فالسكوت الحكومي وعدم الانخراط السريع والجاد والمعلن يوفر مساحة رحبة لضرب مصداقية الحكومة وإثارة المخاوف من نواياها التي ستقضم بالتدريج المكاسب الشعبية والرفاهية العامة، فأصبحنا نسمع عن إشاعات متسارعة تنتجها آلة خبيثة تلعب على إثارة المخاوف وزرع الشكوك لدى المواطن بالمستقبل الذي ترسمه وتنحت ملامحه الحكومة، فيصورون للمواطن مستقبلاً بلا ضمان ولا أمان وظيفي ولا سكن ولا رفاهية.

نعم هذا ما رسمه الخبثاء نتيجة الصمت الحكومي ونتيجة قصر النظر لديها، والأهم وهذا ما أريد التأكيد عليه في هذا السياق أن ما يعزز هذا التشكيك هو عدم إنجازها الملموس والمحسوس في أمور غاية في البساطة، وتمس حياة المواطن بشكل يومي، وتسبب له الأذى اليومي، بل إنها كالقذى المزمن في عينه مثل حُفر الشوارع وتصدعها، فمازال المواطن يعاني من الحفر وتطاير الحصى، وكأن الحكومة يومياً ترجم أي شعور بالثقة لديه، لذلك لو سمع بأي تصريحات إصلاحية للحكومة فإنه يملك الحجة القاطعة لدحض مصداقيتها، فيصيح متهكماً، أولاً أصلحوا الشوارع وأوقفوا الرجم، بعدها تحدثوا عن خطط التطوير والتغيير، ولا يملك أحد أن يرد على هذا المنطق الذي يسانده واقع محسوس ملموس يعانيه الجميع، فهل تشرع الحكومة في تغيير هذه المعادلة، وتنعتق هي، وتعتقنا من هذا المنطق النَّكِد؟؟؟