الأديب الراحل إسماعيل فهد إسماعيل مكتبة كبرى وعظيمة، ولحظة تقف أمام هذه العظمة، تحتار أي كتاب أو موضوع ستختار، وهذه الأيام تحل الذكرى السادسة لرحيله، وجدتني ألمس ثيمة طالما وجدتها حاضرة في حواراته ونقاشاته اليومية، فإسماعيل الملتزم، وصاحب الفكر اليساري الواضح، جعل من الطبقات المهمشة شخصياته المفضلة، لا بل الشخصيات المميزة والرئيسية برواياته وقصصه القصيرة، ويوم سأله أحد الصحافيين عن انحيازه لهذه الطبقة فأجابه «إنهم جمهوري ورواة قصصي وحكايتي، وهم أكثر من ذلك قرائي».
ومن خلال نقاشاتي معه كان يؤكد أن المهمشين محرومون ومعذبون فأخرجوا من دائرة الحياة ومن حواضر المجتمعات والفئات المتنمرة في المجتمع.
وعند العودة لكتابات إسماعيل نجدها من لحظة تبلور فكرة واحتكاكه بالطبقة المسحوقة أيام السبيليات، وچراديغ التمور أيام قدوم العمال والعاملات من مناطق متعددة حتى من خارج العراق للعمل الموسمي في كبس التمور، وشاهد هذه الطبقات ودرجة استغلالها فانحاز إلى صفها، وأصبح شغله الشاغل كي يرفع عنها الحيف، وأولى خطواته يوم كانت السقيفة عند بيته بالسبيليات، وكانت دار ندوة خطوة أولى للإنتاج الثقافي، فتجد في مجموعته (الكرة والباص أو البقعة الداكنة) تلك المحاكات لهذه الطبقة العاملة المسحوقة والمنهوب حقوقها والمستغلة قيمها وإنسانيتها.
وعندما استتبت الأمور وعاد إلى الكويت فأول مقاماته كان بشرق، ويوم نزل للساحة بالمناطق الأخرى وجد هذه الطبقات، وقد زاد عددها وتشكلت منابعها وأصولها، فاختلفت العادات والتقاليد وصارت الغربة والهم العامل المشترك بين هذه الفئات، فخاض إسماعيل غمار هذه الفئات وكتب عنها وعن معاناتها، وذلك من خلال مجموعته القصصية (الأقفاص واللغة المشتركة).
أما دفاعه عن مسحوق ومهمش آخر، فذلك من خلال إحساسه بالمسؤولية وحالة الحيف التي تعرض لها هذا الفلسطيني المعدم من خلال روايته (ملف الحادثة 67)، والذي اتضح من خلالها انتماء إسماعيل واصطفافه مع هذه الطبقة والدفاع عنها، لأنه كان في أعماقه أنه فرد من الطبقة.
وفي تجربته بالدفاع عن حقوق الطبقة العاملة الرثة فكانت رواية (بعيد إلى هنا)، والتي نبش فيها أصول استغلال هذه الطبقة في بلدانها حتى وصولها إلى الكويت، فكانت العاملة السيلانية بطلة الرواية شخصية حقيقية فاصطحبها لبلادها سريلانكا وتعرف وشاهد أبشع صنوف الاستغلال، وتابع سيره مع هذه الطبقة حتى حطت عند كفيلها الذي أذاقها ذلاً أقسى وأبشع.
أما الطبقة الأخرى التي شغلت إسماعيل وأرقت منامه فهي فئة من نوع آخر تمتلك الوعي وثقافتها عالية إلا أنها «بدون»، وهذه الفئة التي عايشها إسماعيل واندمج معها وكتب عنها فكانت روايته (العنقاء والخل الوفي)، والتي حملت شجون هذه الفئة التي جنى عليها الزمن، وكتب عنها إسماعيل في الجزء الأول وأكمله في الجزء الثاني والذي بعده رحل إلى داره السرمدية (صندوق أسود آخر).
وهكذا رحل إسماعيل، الذي ظل وفياً لمبادئه وقيمه ومهمشيه، وظلت هذه الشخصيات التي مثلت انتماءه وزاده اليومي الذي استمد منه روح الكتابة، وتوقد الفكر المتين.
فإسماعيل المنتمي، الذي درس حياة هؤلاء المهمشين من خلال فكر آمن بهم ووضعهم في سلم أولوياته، بل كانوا السطر الأول بكتاباته، فهؤلاء الطارئون هم جمهوره ومرتادو نواديه الأدبية ومسرحه المتحول، وأبطال أفلامه السينمائية التي حلم بها يوماً... إسماعيل أنت معنا كما كنت.