في ظل سيادة القانون في العهد الجديد تبرز الحاجة المُلحَّة إلى رقابة داخلية فعَّالة، لضمان نزاهة الأداء الحكومي وكفاءته، لأن غياب الرقابة البرلمانية قد يولد لدى بعض الوزراء شعور بسُلطة مُطلقة، واتخاذ قرارات قد تكون مخالفة للمصلحة العامة، أو تعرقل مشاريع التنمية، ويفتح الباب أمام الانحرافات أو سوء استخدام السُّلطة، مما يستدعي الحاجة إلى هيكل رقابي داخلي قوي ومستقل داخل الحكومة، كما هو معمول به في الديموقراطيات العريقة.
هذا النموذج يجب أن يُطبَّق في حكومتنا، حيث تمارس الحكومة رقابتها الذاتية على الوزراء من خلال لجان داخلية ومعايير محاسبة دقيقة وشفافة.
فإذا لم يستطع الوزير الدفاع عن موقفه أو توضيح أدائه، يُطلب منه الاستقالة قبل أن يتم اللجوء إلى البرلمان أو اتخاذ إجراءات سياسية قد تكون مكلفة على مستوى الدولة.
توجد وسائل ومؤسسات رقابية أخرى لها دور حيوي، مثل: القضاء، والإعلام، والمجتمع المدني، إلا أنها تبقى أقل تأثيراً مقارنة بوجود كيان رقابي داخلي فعَّال.
فالرقابة القضائية، رغم أهميتها في منع تجاوز السُّلطات لصلاحياتها وردع المسيء، تعتمد على تقديم الشكاوى من المتضررين، مما يعني أن التدخل يأتي بعد وقوع المشكلة وليس قبلها.
أما الرقابة الإعلامية، فهي تعتمد على مدى قوة التغطية الصحافية، وقدرتها على كشف الأخطاء أو التجاوزات، لكنها لا تملك صلاحيات اتخاذ إجراءات تصحيحية مباشرة.
كذلك، تواجه الرقابة المجتمعية تحديات تتعلق بقدراتها الفعلية على المراقبة والتأثير في اتخاذ القرارات الحكومية، خصوصاً في ظل ضعف الموارد.
أما ديوان المحاسبة، فرغم دوره المحوري في التدقيق المالي والإداري، فإنه يفتقر إلى صلاحيات لمراقبة سياسات الحكومة الاستراتيجية وأداء الوزراء بشكل شامل.
وفيما يخص شكاوى المواطن للوزير حول إدارته، فهي تُقدم في الغالب للوزير نفسه، مما يجعله الخصم والحكم في الوقت ذاته، وهو وضع قد لا يحقق العدالة المرجوة ولا يمكن الاعتماد عليه، ولعل مجالس المحافظات الجديدة تستطيع أن تقوم بهذا الدور أفضل كطرف ثالث محايد.
لذلك، لا بد من وجود كيان رقابي داخلي مستقل ضمن مجلس الوزراء يكون قادراً على مراقبة أداء الوزراء مباشرة، واتخاذ الإجراءات الفورية عند وجود أي انحرافات.
هذا الكيان يجب أن يتمتع بصلاحيات واسعة وشاملة، لضمان المحاسبة الدقيقة للوزراء وقيادات الحكومة، مما يعزز قدرة الحكومة على تصحيح أخطائها بسرعة قبل أن تتفاقم الأمور وتؤدي إلى أزمة سياسية.
وجود هذا الكيان سيضمن أن القرارات الحكومية تظل متوافقة مع مصالح الوطن والمواطنين، ويحول دون وقوع الأخطاء الكبيرة التي قد تتسبَّب في إهدار المال العام، أو تعطِّل مسيرة التنمية.
كما يتيح هذا الكيان للحكومة الحفاظ على مصداقيتها أمام المواطنين، إذ لن تكون هناك حاجة إلى الانتظار حتى حدوث الأزمات لإجراء المحاسبة.
ولسنا بمعزل عن العالم، إذ توجد العديد من النماذج الدولية، مثل بريطانيا، حيث يعتمد نظام الرقابة داخل الحكومة على وجود لجان للمراجعة الداخلية تعمل باستمرار على فحص أداء الوزراء، مما يسمح لرئيس الوزراء بمحاسبة الوزراء على أدائهم.
وفي السويد أيضاً يوجد نظام رقابة داخلية ذاتية يتمتع بالشفافية العالية، حيث يتم تقييم أداء الوزراء والمسؤولين بشكل دوري. وفي حالة ثبوت قصور أو مخالفة، يُطلب من الوزير تقديم استقالته طوعاً قبل تدخل البرلمان أو الإعلام.
هذا النظام يُعد من أكثر النماذج فاعلية، لأنه يضمن مساءلة سريعة وفعَّالة قبل تفاقم الأزمات.
أما باليابان، فيوجد نظام محاسبة داخلي يعمل بشكل دقيق، ويعتمد على فرق مراقبة مستقلة تتبع أداء الوزراء، وتقدِّم تقاريرها وتوصياتها لرئيس الوزراء مباشرة.
هذا النظام يضمن اتخاذ قرارات فورية في حالة وجود أي خلل بأداء أحد المسؤولين.
وفي نفس السياق تعتمد ألمانيا على «المكتب الفدرالي للمراجعة»، وهو مؤسسة رقابية مستقلة تراقب أداء الحكومة بشكل شامل، وتقدم تقارير حول الجوانب المالية والإدارية، مما يسمح باتخاذ إجراءات تصحيحية، ويعزز من قدرة الحكومة على المحاسبة الذاتية السريعة.
وفي سياق متصل، توجد في كندا لجنة أخلاقيات الحكومة، التي تعمل على مراقبة سلوك الوزراء والمسؤولين الحكوميين.
تتمتع هذه اللجنة بصلاحيات واسعة لمحاسبة المسؤولين بشكل داخلي، والتأكد من عدم حدوث تجاوزات قبل أن تصل الأمور إلى وسائل الإعلام أو البرلمان.
العدالة والنزاهة تتطلبان أن تتم المحاسبة داخل الحكومة نفسها، ووجود كيان مستقل بشكل كامل عن التكسبات الشعبوية أو المصالح الشخصية أو الضغوط السياسية نفسها، ليتمكن من أداء دوره بشكل موضوعي وفعَّال.
إن وجود هذا الكيان الداخلي في الحكومة سيساهم في تقليل الأخطاء الكبيرة، ويحقق مبدأ المحاسبة، ويضمن العدالة والشفافية في الرقابة المطلوبة.
ونحن مطمئنون إلى تحقيق ذلك، حيث يتبوأ هرم الحكومة شخصية متجردة وتعمل بمنأى عن المحسوبيات وتجاوز القوانين كما هو معلوم للجميع.
* وزير الصحة الأسبق