انفجرت أجهزة النداء، الـ«بيجر»، التي يستخدمها مقاتلو «حزب الله» في لبنان وسورية بشكل شبه متزامن في الـ17 من سبتمبر مخلفة 12 قتيلاً ونحو 3 آلاف مصاب، وفي اليوم التالي، انفجرت أجهزة الاتصالات اللاسلكية في كل أنحاء لبنان، فقتلت 20 شخصاً وجرحت 400 على الأقل، وينسب الهجومان إلى حد كبير إلى إسرائيل.
يمكن اعتبار مدى قوة «انتشار» الهجمات إضافة إلى طبيعتها المسرحية الدرامية على أنها محاولة من قوات الجيش والاستخبارات الإسرائيلية لتلميع سمعتها بعد تلقيها ضربة كبيرة من خلال هجمات «حماس» عليها في السابع من أكتوبر 2023.
وربما تمثل محاولة إسرائيلية لعلاج (حل) معضلة حدودها الشمالية، لدى زيارتي للمنطقة قبل أيام، رأيت آثار تبادل الهجمات الصاروخية المستمرة التي أدت إلى إجلاء 60 ألف شخص من البلدات الإسرائيلية، وتفيد التقارير بأن سكان القرى اللبنانية أجلوا بدورهم نتيجة القتال.
ربما حملت هذه الهجمات رسالة إلى «حزب الله» (والجهة الداعمة له إيران) بضرورة التراجع لكنها لن تسمح للحكومة الإسرائيلية بإعادة السكان إلى منازلهم، بل على العكس، تهدد هذه الهجمات بتصعيد الصراع المحتدم على الحدود الشمالية، واندلاع الحرب الإقليمية التي بذلت الولايات المتحدة وعدد كبير من جيران إسرائيل جهوداً كبيرة لتجنبها.
الاثنين الماضي، قبل هجوم الـ«بيجر» التخريبي، زرت بلدة كريات شمونة الإسرائيلية قرب الحدود مع لبنان، وكانت شبه خالية، ولم تكن هذه المنطقة الشمالية من إسرائيل، التي تمتد على مساحة مربعة الشكل وتحدها التلال اللبنانية ومرتفعات الجولان الجرداء وشديدة الانحدار، أكثر المناطق الإسرائيلية ازدهاراً نظراً إلى الأعمال العدائية هناك، وقد أغلقت الطرق المؤدية إلى دمشق وبيروت منذ زمن طويل، بيد أنها كانت مع ذلك منطقة تضم مزارع فاكهة صغيرة وقطعان ماشية وسياحة هادئة قرب الجليل إلى الجنوب.
والآن تحولت إلى مدينة أشباح بعد إجلاء سكانها وتوزيعهم على إسرائيل، أما عمدتها فيحاول جاهداً تمويل حاجاته الأمنية كي يمنع نهب الشقق والمنازل والمؤسسات التجارية المهجورة.
من ناحية أخرى، احترقت مساحات من الغابات في المنطقة إما بفعل الضربات الصاروخية أو الصواريخ الاعتراضية التي يطلقها نظام القبة الحديدية المضاد للصواريخ، ونظراً إلى كلفة إطلاق الصاروخ الواحد التي تصل إلى 100 ألف دولار، وإلى قلة عدد السكان المتبقين الذين تستوجب حمايتهم، تعطي وحدات التحكم بالقبة الحديدية الأولوية الآن للدفاع عن مناطق إسرائيلية أخرى. ويقول الأشخاص القليلون المتبقون هنا (من لم يغادروا البلدة) إن الخوف من اجتياح «حزب الله» المنطقة، وليس الصواريخ، هو ما أدى إلى فرار السكان.
منذ السابع من أكتوبر 2023، ما عاد لدى السكان ثقة في قدرة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية على حمايتهم، ويبدو أن احتمال عدم تمكن السكان من العودة مطلقاً أصبح احتمالاً وارداً أكثر فأكثر.
يأسف القادة العسكريون لعدم شن ضربة «سريعة» عبر الحدود تجلب المزيد من الأمن للمنطقة، ويوافق المحللون على أنه من الصعب التفكير باستعادة ثقة السكان من دون عمل كهذا، لكن ذلك كفيل بتصعيد الصراع في النهاية مع إيران ووكيلها «حزب الله»، وهو تحديداً مما لا تريده الولايات المتحدة ولا حلفاء إسرائيل الآخرون.
من المحتمل جداً أن يرد «حزب الله» وحلفاؤه على هذه الهجمات مع أن شكل هذا الرد ما زال غير واضح، إذ يعمل «حزب الله» مع إيران بشكل أوثق من «حماس»، وسيسير على إرشاداتها.
من ناحية أخرى، يحرز وكيل إيراني آخر في المنطقة، هو جماعة الحوثيين في اليمن، نجاحات كبيرة في تعطيل حركة الشحن في قناة السويس والبحر الأحمر وقد ضربت الحركة إسرائيل بالصواريخ مرتين، لكن المؤشرات تدل على أن إيران لا ترغب بالمشاركة في نزاع أشد وتيرة من النزاع الدائر، إذ قد تصعب السيطرة على الحرب الشاملة التي ستعوق جهود الرئيس الإيراني الجديد من أجل رفع العقوبات عن بلاده.
بعد مرور سنة تقريباً على هجمات السابع من أكتوبر 2023، حين قتلت «حماس» نحو 1200 إسرائيلي وأسرت 250 آخرين، ما زالت إسرائيل بعيدة عن حل النزاع الذي يشكل إحدى أعظم الأزمات في تاريخها، وقد أسفرت ملاحقتها لـ«حماس» في غزة عن مقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني وفقاً للسلطات في غزة، كما أثارت موجة كبيرة من الانتقادات الدولية لها.
لا تزال أكثر من 100 رهينة في غزة، مع أن وفاة كثير منهم إما معروفة أو مشكوك فيها، عند زيارة إسرائيل قبل أيام كان من اللافت رؤية حالة الانقسام الشديد في الرأي العام بين الذين يعطون الأولوية لاستعادة الأسرى والذين يفضلون ملاحقة «حماس» حتى على حساب حياة الأسرى.
وفي المقابل، أسفر ارتفاع وتيرة أعمال العنف في الضفة الغربية، بما فيها تلك التي ارتكبها المستوطنون الإسرائيليون، عن مقتل أكثر من 600 فلسطيني منذ السابع من أكتوبر 2023، وهذا يهدد بتدهور الأوضاع في جبهة أخرى من النزاع.
وفي هذه الأثناء، تخضع إسرائيل لضغوط دولية متعاظمة من جراء ما ترتكبه في غزة، بعد التقائي إسرائيليين وفلسطينيين وحديثي معهم يبدو السلام بعيد المنال كالعادة.
كما أن احتمال المضي قدماً نحو تعزيز الاستقرار في العلاقات الإقليمية من خلال التطبيع مع السعودية والعلاقات الدبلوماسية المقامة مع خمس دول عربية يبدو بعيداً أيضاً، في ظل استمرار القتال في غزة، فمع اقتراب الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر 2023، لا تملك إسرائيل استراتيجية للسلام.
* براونين مادوكس المديرة والرئيسة التنفيذية في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس).