تعمل الذاكرة بطريقة لا نعرف مفاتيحها، فهي تسترجع ملفاتها وصورها في أوقات لا نطلبها، وعندما نحتاج لمعلومة مهمة من أرشيفها تنغلق على نفسها كالسلحفاة الخائفة، ومع تقدم العمر وكثرة التجارب، تقدم لنا الذاكرة مستوى أعلى من المعلومات، فهي مرة تعود إلى مرحلة الطفولة ومرات عديدة تستعرض مجموعة من العناوين المتشابهة، وكأنها تقدم لنا دراسة مقارنة لموضوع محدد، وهنا بيت القصيد.

ذاكرتي وعلى وقع سلسلة الأخبار المفبركة وتداعياتها الضارة، استرجعت لي وأنا في فورة حنقي على ما يحصل من وزارة التربية من انهيار، ثلاثة مشاهد: أولها فرحتي بقبول عضويتي في جمعية الصحافيين عام 1995م، وكيف تعلقت بشعارها «حرية - مسؤولية» الذي أثر في مسيرتي الصحافية بشكل عام وطريقة نقلي للأخبار للناس بشكل خاص، المشهد الثاني عبارة عن تجمع جلسات أعضاء «القعدة» المسائية حول الراديو أيام الغزو العراقي في منطقة اليرموك، المشهد الثالث والأخير هو عملية الهروب الكبير من وزارة التربية بسبب إشاعة تقليص مكافأة نهاية الخدمة.

Ad

الرابط بين تلك المشاهد الثلاثة هو كيف تؤثر الكلمة على الناس؟ وكيف يفكرون؟ ومن يطلق اللكمات أو الكلمات؟ وما دوافعه؟ وحدوده؟ ومن يحاسبه؟ والأخيرة تحتها مئة خط.

بسبب شعار جمعية الصحافيين الذي صدقته وآمنت به قيدت لساني وقلمي بكابح المصدر الموثوق كمرحلة أولى ثم الكلفة الاجتماعية في المرحلة الثانية، لم أهتم بنقل الأخبار في زمن ما قبل الترند لأن بناء السمعة في عالم الصحافة المحترمة أهم من الخبر العابر الذي يحدث ضجة سرعان ما تنتهي، أعترف بأن كاتب الأخبار المثيرة يجد قبولاً وربما خشية من بعض المسؤولين، لكن الاحترام ليس ضمن ذلك القبول.

المشهد الثاني وهو الذي وجدته يتكرر ويتناسخ في كتب التاريخ والحاضر والمستقبل لأنه مرتبط بالنفس البشرية، هو مفردات الإفك وتحليلات الباطل التي يروجها راديو النظام البعثي، وكيف تفاوت تأثيرها على أعضاء الجلسة المسائية وكيف ينهار أحدهم، وتتكسر عزيمته، لأن أذنه اختارت أخبار المحتل، وتجاهل كل أخبار الحشد الدولي الذي يزداد على الأرض كل يوم بمئات الطائرات والدبابات وآلاف الجنود، هنا تعلمت الدرس مبكراً، وهو أن بعض الناس، وهم كثير، يفضلون الإشاعات والأخبار الضعيفة على المعلومات المؤكدة أو حتى أبسط قواعد المنطق.

نأتي الآن إلى مشهد اليوم وهو تآكل الهيئة التدريسية في بداية العام الدراسي بخروج الآلاف من المعلمين والإشرافيين بسبب أخبار تداولتها حسابات وهمية في عالم التواصل الاجتماعي عن إلغاء أو تقليص مكافأة نهاية الخدمة، وسط صمت رسمي أصبح هو السلوك السائد، وكذلك وسط تجارب طازجة من أخبار النفي ثم التراجع ثم النفي ثم وقوع الواقعة.

إنني أعلم جيداً أن أدوات الزمن الحالي في نقل الأخبار تغيرت وتبدلت لأشكال شبه هوائية، نشعر بها ولا نستطيع أن نمسك بها، وأعلم أيضاً أن هذا الوضع لا ينطبق على أصحاب القرار عندما يريدون الإمساك بأصحاب تلك الحسابات الوهمية التي دمرت المنظومة التعليمية، وأرعبت الناس في قطاعات أخرى خوفاً على مصدر رزقهم الوحيد وهو الراتب.

في الختام، لقد كانت الكلمة مسؤولية في زمن كان يمكن السيطرة فيه على مسار انتشار الأخبار، اليوم الكلمة تطلق كالرصاص بلا قيد أخلاقي أو مهني أو عواقب، وعندما يقع مثل هذا الضرر البالغ تكون الشدة مطلوبة لحفظ تماسك مؤسسات الدولة والمجتمع من الانهيار.