إن قراءة واقع الأنظمة البرلمانية قاطبة تكشف ظاهرة بارزة تستحق الوقوف عندها وتحليلها وإمعان النظر فيها، إذ ربما تكشف عن خلل في هذه الأنظمة أو إشكال هيكلي في النظام ذاته، فهذه الظاهرة تبرز أن ممارسات النظام البرلماني قد أفرزت واقعاً عكسياً (خلافاً) لمقاصده.
ففي حين أن بناء النظام البرلماني قد شُيّد على فكرة تداول السلطة (والمقصود حصراً السلطة التنفيذية)، وهذا وجه للإشكال الهيكلي في النظام ذاته، فإن تداول السلطة ينبغي أن يكون بأوسع نطاق ويمتد لكل السلطات حتى تتحقق مراميه ومقاصده، الوثيقة الارتباط بـ «نظرية تداول السلطة»، والتي ينبغي أن تشمل كل السلطات، بحسبان أن ذلك صنو مبدأ الفصل بين السلطات، والذي من غاياته الأساسية إحداث الرقابة المتبادلة بين هذه السلطات على أساس مبدأ التوازن والرقابة check and balance، المتبادلة فيما بينها، لغاية أسمى تنبثق عن جميع تلك المبادئ (الفصل بين السلطات، الرقابة والتوازن، وتداول السلطة)، ألا وهي منع الاستبداد والتفرد وتغوّل أي سلطة على السلطات الأخرى.
ولئن كانت الحالة المحورية للنظام البرلماني بخصوص «نظرية تداول السلطة»، هي جوهر مقاصد النظام البرلماني (وهو ما تحفظنا عنه في إشكاليته الهيكلية)، فإن محاولة تعقب واقع أغلب الأنظمة البرلمانية وممارساتها اليوم لا تدعم ذلك ولا تعمل على تحقيقه، إذ إن الظاهرة الواضحة والتي هي محل اهتمامنا وتحليلنا في هذه الدراسة هي وجود خلل جسيم في تحقيق «نظرية تداول السلطة» فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية، فواقع الأنظمة البرلمانية في أغلبها، كما تكشف عنه هذه الدراسة، يبين ظاهرة شاذة مؤداها أن السلطة التنفيذية بدلاً من أن تتسم حالتها بالاستقرار والاستمرار المنطقي، وفقاً للمدة الزمنية المواكبة لعمر البرلمان الواحد وفي كنفه، حتى تكون قابلة للتداول والتناوب في إدارتها، فإنها تعاني من حالة اللااستقرار واللااستمرار، مما يعني تعدد مرات تشكيلها في الفترة الزمنية الواحدة من عمر البرلمان المنتخب لمدة أجله المحدد (أربع أو خمس سنوات)، بل إن الحكومات، وكما تكشف الدراسة، تشكل لثلاث مرات على الأقل في عمر البرلمان الواحد وقد تبلغ في بعض الحالات سبع مرات.
وتلك الظاهرة تتنافى مع فكرة الاستقرار والاستمرار الوزاري، كونه من مقاصد النظام البرلماني، الذي يجعل من السلطة التنفيذية حجر الزاوية فيه كما يقول Jennings في مؤلفه الشهير «حكومة الوزارة» (The Cabinet Government)، وهو ذات الرأي الذي يشير إليه المرحوم أ.د. عثمان عبدالملك الصالح في كتابه «النظام الدستوري والمؤسسات السياسية في الكويت عام 1987»، وتلك الوظيفة الجوهرية في الدولة التي تجعل من الحكومة هي حجر الزاوية، كما أسلفنا، تتطلب استقرارها واستمرارها، حتى يتم إعمال ونفاذ المبدأ الجوهري الذي بني عليه هذا النظام وهو «تداول السلطة التنفيذية»، أما إن تعذر استقرار السلطة التنفيذية واستمرارها لذات أجل عمر البرلمان الواحد، كما يكشفه واقع أغلب الأنظمة البرلمانية التي هي محل هذه الدراسة، فإن نظرية تداول السلطة التنفيذية تتهاوى، ومن ثم تسقط أهم نظرية بنى عليها النظام البرلماني هيكليته.