على الرغم من اتخاذ الحكومة ووزاراتها خلال الفترة الماضية مجموعة من القرارات المؤثرة التي شغلت الرأي العام، كإلغاء عقد تأمين عافية للمتقاعدين، أو إقرار البصمة الثالثة على موظفي الدولة، أو خفض البدل المالي لشرائح من العاملين في القطاع العام، فإن هذه القرارات لا تعد ضمن سياق القرارات الإصلاحية حتى وإن كانت صحيحة في مبدئها لكون تنفيذها مجتزأ بشكل يفتقر إلى وجود هدف نهائي واضح، فضلا عن كونها قاصرة، لأنها ليست ضمن برنامج عمل شامل.

فقيمة أي قرار كي يوصف بالإصلاحي تكون بما يفضي إليه من نتائج ومنافع اقتصادية أو خدمية أو تنموية، وليس فقط في مبرراته المالية، لذلك لا يمكن تقييم أثر إلغاء تأمين عافية كقرار إصلاحي بمنظور التوفير المالي بشكل مجرد، رغم أهميته إلا من خلال رفع جودة الخدمة في النظام الصحي الذي يستهلك من خلال ميزانية وزارة الصحة 3 مليارات دينار سنويا بما يعادل 12 بالمئة من إجمالي الإنفاق العام و5.4 بالمئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، في حين تظهر نتائج هذا الإنفاق في محدودية قدرات الوزارة بإيجاد آليات تضمن ترتيب المواعيد والزيارات للمرضى أو كبار السن، فضلا عن تعرّض النظام الإلكتروني الصحي لخلل تقني عطّل قدرات وزارة الصحة، مما يعني أن ضخامة الإنفاق المالي - خارج نظام عافية - هي بالأصل لا تصب في مصلحة جودة النظام الصحي.

وكذلك الأمر بالنسبة للبصمة الثالثة أو تقليص البدل المالي في القطاع العام، فهو وإن اتخذ صورة ضرورة الالتزام بالعمل أو تقليص النفقات غير الضرورية، إلّا أن قيمته الحقيقية المفقودة هي في خلق فرص وظيفية في القطاع الخاص، أو من خلال المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهنا نتحدث عن بيئة عمل غير حكومية شبه معدومة، لا سيما بعد أن بلغت نسبة العاملين الكويتيين في القطاع العام مستويات قياسية، وصلت إلى 84 بالمئة من حجم قوة العمل الكويتية.

Ad

اجتزاء ونتائج

ولعل اجتزاء القرارات - حتى وإن كانت ذات مظهر إصلاحي، كالضريبة أو الخصخصة أو الدَّين العام أو رفع سن التقاعد عن سياق تحديد هدف نهائي واضح متعلق مثلا بتنمية حجم ومكونات الناتج المحلي الإجمالي أو إصلاح سوق العمل، أو رفع مستوى الخدمة، أو رفع جودة الإيرادات والمصروفات، فضلا عن معالجة انحرافات التركيبة السكانية سيجعلها تُفضي الى نتائج معاكسة خطيرة، منها التضخم والبطالة وتجارة العمالة والاحتكار، الى جانب الهدر في الإنفاق مع تنامي معدلات الاستدانة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدم اتساق هذه النوعية من القرارات مع أهداف واضحة يكون في أسوأ صوره - مهما كانت القرارات المتخذة صحيحة - عندما يقترن بغياب خطة عمل مهنية في مجلس الوزراء تتمثل في عدم صدور أي برنامج عمل حكومي يحدد مسار الإدارة العامة التي تمتلك حاليا الاختصاصات التشريعية والتنفيذية كافة.

فكرة وفشل

ولا شك في أن غياب المقاصد والأهداف الواضحة، بالتوازي مع عدم وجود خطة عمل، يعرّضان أي فكرة صحيحة للفشل، ويمكن سرد العديد من الأمثلة تجاه القرارات والإجراءات الصحيحة في قيمتها وليس فقط مظهرها... فإنجاز ميناء مبارك أو أيّ من المشاريع الكبرى قيمته الحقيقية في خلق بيئة تجارية واستثمارية توفر فرص عمل للشباب الكويتيين وإيرادات غير نفطية للدولة وقيمة جذب الاستثمارات الأجنبية بما توفّره للسوق من خبرات أو تكنولوجيا وتدريب ووظائف ونتائج إزالة مخالفات السكن الاستثماري لا تقاس إلا بما تعكسه من نتائج في التركيبة السكانية وتجارة الإقامات وتوفير بيئة عمل صحية وإنسانية للعمالة الوافدة، الى جانب أن أي توفير مالي لا يقترن مع رفع جودة الخدمة سيعني مزيدا من الهدر في المصروفات على المدى المتوسط، ولا يعد تأجيل أقساط المتعثرين في المشروعات الصغيرة والمتوسطة دعما حقيقيا ما لم يعالج أمراض بيئة الاستثمار المتمثلة بمثلث (سهولة التمويل - توفير الأراضي - خفض البيروقراطية)، وصولا الى مثال بسيط، وهو فتح البلد للزيارات الذي إن لم يواكبه وجود بيئة أعمال أو سياحة لو بالحد الأدنى، فإن احتمالية تحوّلها الى قناة لتجارة الإقامات والتسول ستتصاعد.

وبناء على ما سبق، فقيمة اجتماعات مجلس الوزراء نفسه لا تقاس إلا بمدى تنفيذه لبرنامج عمل لم يصدر حتى بعد مرور أكثر من 4 أشهر على تشكيل الحكومة... مما يجعل اجتماعاته أقرب الى ردود فعل وليس سياسات واضحة.

سلبيات «فيتش»

ولعلنا عندما نتحدث عن الاجتزاء يبرز تعليق مجلس الوزراء في بيانه الأخير على تقرير وكالة فيتش بشأن التصنيف الائتماني السيادي لدولة الكويت، حيث استعرضت وزيرة المالية ما قالت إنها «نقاط القوة الائتمانية للدولة في وضعها المالي القوي والميزانيات العمومية الخارجية التي تُعد الأقوى بين جميع الدول المصنفة من قبل وكالة فيتش»، من دون الإشارة إلى العديد من الانتقادات والسلبيات التي احتواها التقرير للأوضاع الاقتصادية والمالية، وأهمها أن الترشيد في الكويت يستهدف النفقات غير الأساسية، وأن تصنيف البلاد مقيد بالاعتماد الكبير على القطاع النفطي والدعوم الحكومية وحجم القطاع العام، فضلا عن أن الإيرادات العامة تستمر بالانخفاض مع أي مراجعة محتملة لحصص «أوبك بلس»، فضلا عن ظهور بوادر لزيادة الضغط على سيولة صندوق الاحتياطي العام... وهذه ملاحظات مستحقة تم اجتزاؤها من سياق تعليق وزيرة المالية على التصنيف الائتماني للبلاد.

«التقصقص» المالي

ما يجب أن تستوعبه الإدارة العامة أن خطط الإصلاح الاقتصادي أعمق بكثير من سياسات «التقصقص» المالي أو فصل القرارات عن سياق الأهداف المفترضة أو العمل خارج نطاق خطة عامة وواضحة تخضع للقياس والتقويم والمراجعة، فهي مشروع دولة يفترض أن يطبّق وفق معايير عالية المهنية تعرف مقاصد أي قرار وليس بنظام ردود الأفعال الذي قد يثير الكثير من الضجة والصخب، لكن من دون عائد حقيقي لإدارة البلاد وتنميتها.