«الدولة» التي نحلم بوجودها
عنوان أطروحة الدكتوراه «تفكيك الهويات وإعادة بنائها– حالة الطوائف في لبنان»، تعالج مسألة الهويات تجاه ما نشهده اليوم من سلوكيات مختلفة عن السائد في المجتمعات، والفراغ في منظومة الحداثة وحالة الضياع التي نعيشها بفعل العولمة وما أفردته من قيام «اقتصاد عالمي جديد» مهلاً علينا، فالموضوع يحتاج إلى الشرح والتفسير.
الباحثة ناهدة محمود نالت الدكتوراه من الجامعة اللبنانية في بيروت لم تجد ضرورة للبحث عن صيغة جديدة للنظام السياسي بدل اتفاق الطائف، بل المهم تطويره لجهة تعديل الثغرات التي صاحبت تطبيقه، مثل «اللا مركزية الإدارية» وتحديد المهل الدستورية.
لم أكن أتوقع أن يخرج من بيئة أكاديمية نوع من «الأطروحات» كهذه وإحدى الخلاصات التي وصلت إليها، بعد الحروب والنكبات والأزمات الوجودية والفساد المشرعن والاستقواء «بالأجنبي» الذي شهده هذا البلد منذ ميثاق 1943 وإلى اليوم، وهذا كله من إفرازات ونتائج تركيبة النظام السياسي وثقافته، وبدون الخوض في التفاصيل والجدل العقيم الذي نعيش فصوله كل يوم في المشهد السياسي اللبناني المظلم والتعيس نقول، إن الصيغة التي تحكم هذا البلد لم تعد صالحة للعيش الآدمي، صيغة نظام قائم على توزيع الحصص والمغانم والكراسي على قاعدة التمثيل الطائفي، مهما بلغت محاولات ترقيعه أو تعديله والإطالة في عمره، لذلك علينا أن نبحث عن «صيغة عقد جديد» لا علاقة للطائفة ولا الدين أي صلة به.
نحتاج إلى تعميق «الهوية الوطنية»، وخلق «مواطن لبناني» ينتمي إلى بلده و«دولة» تجمع مواطنيها تحت سقفها، كفانا حروباً من أجل الآخر، كفانا تقتيلاً ودماراً لبعضنا، أصبحنا «ممسحة» عند الآخرين، لبنان بديموقراطيته الطائفية، صار بعبعاً ومحل تندر ومرض خبيث، يبتعد عنه المحيط الجغرافي.
نجلد أنفسنا وندور في حلقة مفرغة عندما نقول، أين الهوية الوطنية الجامعة؟ في الوقت الذي نستذبح فيه أمام همجية زعماء الطوائف والعصبية الطائفية التي قتلتا؟ كيف يستوي الحديث عن «المواطنة» ونحن نسقط في القاع تحت حجة «عدم المساس بحصص الطوائف»..
ثقافتنا الوطنية معدومة أصلاً، فما بالنا ببناء دولة مستدامة نخرج فيها من دوامة الحروب والاقتتال، وفي أحد جوانب شهادة الدكتوراه للباحث ناهدة محمود تضع يدها على الجرح عندما تذهب إلى الاستناد القائل إن العولمة ساهمت في تعميق الهويات الطائفية... وترى أن الهويات الأولية بالنسبة إلى الطلاب الجامعيين لا تزال مهيمنة على خياراتهم السياسية، رغم الوعي المدني لهؤلاء، والتغيير لدى هذه الفئة لا يدل على تغيير حقيقي في البنية الثقافية، بل أصبحت انتماءاتهم «رخوة» في غياب مبادئ ثابتة وتكريس «ثقافة اللا معنى».
أكبرت ذاك الشامخ بوطنيته وأعني به الشاعر والأديب هنري زغيب الذي يحلم بدولة كما العقلاء والناضجين الذين يستحقون أن يحملوا شهادة «مواطن» ونردد معه سوية: «الدولة التي أريدها وأجلها وأنضوي تحت جناحيها، هي التي تهبني ولا تنهبني، هي التي تحميني ولا تأويني، هي التي أهرب إليها ولا أهرب منها، هي التي أعتز بها ولا أعز عنها، هي التي تقتطع من دخلي ضريبة تحسن بها وضعي، فتؤمن لي ضمان شيخوخة وضمان نهاية الخدمة وضماني الصحي والاجتماعي وتؤمن لي قضاء يحميني وقانونا يضمنني ودستورا أطمئن أن أنتمي إليه».