منذ ولادتنا ونحن نسمع بأن الأيام حبلى، وحتى يومنا هذا وهي تلد كل يوم، لكنها تبقى حبلى دائماً، وغالباً ما تلد الحقائق الواضحة أو الضلال والضياع، فتغني أهل الحقائق بالحقائق وتغري أهل الضلال بالضلال.

وفي كل يوم يزداد عدد أهل الحقيقة العارفين قليلاً، ويزداد عدد أهل الضياع والضلال أنصاف المثقفين وأنصاف الواعين وأنصاف الفقهاء بشكل كبير، ويتقلص أهل الجهل الذين يعيشون على هامش الحياة (لا لهم ولا عليهم).

Ad

وهؤلاء الذين «لا لهم ولا عليهم» خير ألف مرة من أن يتحولوا إلى الضياع والضلال، فأن تكون جاهلاً منزوياً خير من أن تكون نصف مثقف أو نصف فقيه أو نصف عارف، فقد ضاعت الأمم وتاهت الشعوب من تأثير هذه الأنصاف، وما ضاع شعبٌ أو تاهت أمةٌ من تأثير جاهل الناس، لأن الأول يقود الى الخراب والثاني لا يقود إلى شيء، فمشكلة الأنصاف أنهم بنصف علم لا يكفيهم الوقوف بين المثقفين، ونصف جهل يفقدهم توازنهم ولا يسمح لهم بالقعود مع الجهلاء.

والثقافة النصفية مثل الشلل النصفي من حيث القدرات، لكن الأمنيات بينهما مختلفة، فالمشلول نصفياً يتمنى الشفاء غالباً ويبحث عن علاج لمرضه وإن يئس من الشفاء فربما يتمنى الموت، في حين أن نصف المثقف لا يسعى لعلاج مرضه عبر التعلم، ولا يتمنى العودة لمنطقة الجهل ليسلم المجتمع من ضرره لأن ثقافته الوهمية لا تسمح له بالاعتراف بجهله.

ولأن الأيام حبلى فإن وجود نصف العالم ونصف المثقف ونصف الواعي يضر المجتمع بشدة من خلال ما تلده الأيام من (بلاوي)، خاصة بعد أن زادت (الباصات) التي تطلقها الحكومات والمؤسسات الإعلامية الموجهة فيركبها الأنصاف بسهولة، وقد كنا وما زلنا شهوداً على ضياع الأنصاف وتيههم وركوبهم باصات مختلفة.

وعلى ذكر الباصات فإن لنا زميلاً (دكتوراً) في أحد قروبات الواتساب اشتهر بإرسال (باصات)، لكن أعضاء القروب لا يركبونها أبداً لأنهم واعون وليسوا أنصافاً، في حين أتفاجأ (في قروبات أخرى) بوصول الباصات نفسها بطريقة أو بأخرى وقد ركبها عدد كبير منهم.

ورغم أن الربط بين الحالة ونقيضها غير ممكن لكن نصف الثقافة ونصف الوعي ونصف العلم تجعل البعض يربط بين النقائض لأنه يبرع في استخدام نصفه الفارغ واضح المعالم، ويعجز عن استخدام نصفه (المليان) الضبابي المعالم.

وفي طوفان الأقصى مثلاً نرى من يدعم أهل غزة وجهادهم الحالي لكنه في الوقت نفسه يأخذ أخبار المعركة من مصادر صهيونية يعتقد أنها صادقة وشفافة، وهي حالة كل أنصاف المثقفين في مختلف الأحداث الذين يعتمدون على نصفهم الجاهل في تقديرهم للأمور دون انتباه فيركبون الباصات بسهولة.

والحقيقة أن من يقود الناس ويحرك المجتمعات ويتحكم بالرأي العام جهات ذات مصالح لا مبادئ، وقد اكتشفنا متأخراً خطأ الفكرة القائلة إن «المبادئ ثابتة والمصالح تتغير»، فقد ثبت ومن خلال الصراع الشديد بين المبادئ والمصالح أن المصالح أكثر ثباتاً لأنها أكثر جاذبية وسيطرة على الأشخاص، والمبادئ عرضة للتغيير وأصحابها يمكن أن يتخلوا عنها إذا تضاربت مع مصالحهم.

وقد رأينا معظم الذين ادّعوا أنهم أصحاب مبادئ في هذا الزمان يضعفون أمام إغراء المصالح، فيتخلون كلياً أو جزئياً عنها أو يعيدون تفسيرها بالطريقة التي تفرغها من أي التزام مكلف، في حين رأينا التزاماً عجيباً من أصحاب المصالح بمصالحهم بشكل يوحي بأنهم مبدئيون بخصوص هذه المصالح.