عندما دوّن الكاتب الروسي الشهير تولستوي روايته «الحرب والسلم»، متأثراً بأجواء الغزو البونابرتي لروسيا وفشل الحملة على روسيا بعد رفض القيصر الاستسلام، كانت الأسر الأرستقراطية تعيش حياة بذخ فاضح، في حين تعاني بقية شرائح المجتمع الروسي جواً من الخوف والرعب والفقر.

ورغم ما يكتنف الرواية من أبعاد تخييلية حتمتها الصياغة الروائية والأدبية، فإنها نقلت بجرأة وحبكة فريدة سياقات الصراعات الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع المخملي الروسي وخارجه ودور النخب في هذه التحولات.

Ad

وفي استعادة للحظة القرن التاسع عشر، تبدو الأجواء الراهنة وسياقاتها متقاربة مع تلك الفترة، فما يعيشه المشرق العربي الغارق في صراع مشوب بالتناقضات السافرة، بدءاً من غزة وفلسطين ووصولاً للعراق مروراً بسورية ولبنان واليمن، يظهر أن هذه الساحات تشهد ذروة الأزمة وتناقضاتها في مراوحة مستمرة بين مشهدين أحدهما مؤلم حد الوجع، والآخر ضالع في ترف باذخ.

وعلى حدود هذه المنطقة يرقص الكيان المحتل ضاربا بكل المواثيق عرض الحائط بدعم دولي غير محدود، في حين يقف العرب عاجزين إزاء هذه المفارقة الغريبة، فشل ولّده إخفاق مزمن توظفه القوى الإقليمية بالمنطقة لتجعل منه منفذا لحماية مصالحها والتفاوض مع القوى الغربية على ذلك الأساس، من هذه الزاوية تبدو لعبة الحرب والسلام رهينة الأقوى والأقدر على إدارة لعبة الميدان، وتوظيفها على طاولة التفاوض.

على منوال الكيان المحتل توظف القوتان التركية والإيرانية تأثيرهما فيما قد نطلق عليه مجالهما الحيوي، وفق استراتيجيات مختلفة للوصول لأهدافهما، وقد أفلحتا إلى حد كبير وباتت حدود قوتهما أبعد بكثير عن حدودهما الوطنية... هذه المعادلة المعقدة التي تتداخل فيها أوراق كثيرة، يتقاطع فيها الولاء بالسياسة والدين بالثقافة والاقتصاد، غاب عنها العرب إدراكا وتأثيرا وفعلا.

خلو الساحة من فاعلين حقيقيين يجعل مصير السلم والحرب والاستقرار مرتبطا بقرارات من خارج الإقليم العربي، الذي أضيفت حالة صراع عبثي بين مكوناته إلى تمزق مواقفه وتشتت وحدته، في غياب محور موحد يحفظ الحدود الدنيا، ولعل المعضلة الكبرى تكمن في التحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، والتي تمهد إلى عالم متعدد الأقطاب سيترك مرحلة الآحادية، التي افتتحت بها تسعينيات القرن الماضي.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شهد العالم تحولين، ونحن على أبواب تحول ثالث، كان العالم العربي في قلب هذه التحولات عمليا، ولم يتمكن من حجز مقعد نافذ يؤهله لصناعة مستقبله، رغم مساهمته في هذه التحولات وحيازته أبرز أدوات التنمية الاقتصادية التي تقود لموقف جيوسياسي فاعل.

أغلب المؤشرات الحالية تقود إلى استمرارية هذا الإدراك المحدود لعوامل وشروط الانتقال من واقع العجز الحالي، ويدعو الى صياغة مسار العمل العربي المشترك والبحث عن صيغ جيوسياسية براغماتية تحدد الأولويات وتبحث عن أفق جديد في عالم يتجدد باستمرار.