«اقتلوني أنا ولا تقتلوا ابني»
بجانب أسوأ ما في الإنسانية غالبا ما تصادف أفضل ما فيها، وهذا ما كان من أمري وأنا أغطي القتل والاغتصاب والمجاعة في السودان، إذ وقفت بإجلال أمام بطولة اللاجئة نعيمة آدم.
أنا الآن على الحدود التشادية السودانية أكتب عن الأعمال الوحشية الجارية في حق الجماعات العرقية الإفريقية السوداء في السودان، في وضع شبيه شبهًا أليمًا بإبادة دارفور الجماعية قبل عقدين من الزمن، والعمل الصحافي من هذا المكان يجعلك ترى أن «الشر» ليس محض كلمة من كلمات الإنجيل العبري البائدة وإنما هو قوة لا تزال فاعلة في القرن الحادي والعشرين.
ومع ذلك، حينما تنهار حضارة ونتعرض نحن البشر للابتلاء، تنكشف حقائق بعضنا فإذا هم مرضى نفسيون، لكن منا من يتبين أنهم قديسون، ومن أولئك نعيمة.
تنتمي نعيمة البالغة من العمر 48 عاما إلى جماعة عرقية سوداء استهدفها المتطرفون التدميريون في قيادة السودان العربية، فعلى مدى أربع مرات خلال السنوات العشرين الماضية أحرق الناهبون العرب بيتها في معرض تطهيرهم العرقي للجماعات غير العربية، واغتالت ميليشيا الجنجويد العربية زوجها قبل تسع سنوات.
بعد أن أطلق فصيلان عسكريان حرباً أهلية في عام 2023، حاول أحدهما- وهو فصيل من نسل الجنجويد يطلق عليه قوات الدعم السريع تسلحه دولة عربية- طرد الأفارقة السود مرة أخرى من دارفور، حكت نعيمة الحكاية التي سبق أن سمعتها من كثير من الناس فقالت إن الميليشيا حاصرت قريتها، وأوقفت الرجال والصبية صفوفاً، ثم قتلتهم واحدا تلو الآخر، ونقلت عن أحد المسلحين قوله «سنتخلص من هذه القمامة السوداء»، ثم مضى المسلحون من بيت إلى بيت يقتلون وينهبون ويغتصبون، وأغلب من اغتصبوهن فتيات ونساء لكنهم اغتصبوا رجلاً أيضاً حسبما قالت.
أخذ رجلان ابنة نعيمة إلى غرفة وأغلقا الباب، وهي تشك في أنهم اغتصبوها، ولكن العنف الجنسي تابو، فلم تسأل ابنتها قط عما جرى وراء الباب، تحمل الناجيات من الاغتصاب الألم وحدهن، وبرغم إنشاء جماعة مدنية مركزاً على الحدود لمساعدة النساء فإنه يصعب عليهم توفير التمويل، وبسبب قتل الميليشيا حتى للأطفال الصغار، خشيت نعيمة من أن يقتل المسلحون ابنها نظير ذا السنوات العشر، فحملته على ظهرها مثلما تضع الأمهات الأطفال الصغار عسى أن يبدو أصغر عمراً، فطن مسلح إلى ذلك فأمرها بتسليمه.
وصاح الرجل «إنه صبي، اقتلوه»، فقالت نعيمة «لا تقتلوا ابني واقتلوني أنا»، فضرب رجل نعيمة بكعب بندقيته محاولاً اجتذاب الصبي، ورفع آخر سلاحه وأطلق على نعيمة طلقتين، في الصدر والساق، وقد أرتني الندبتين، أصابتها كلتا الطلقتين، لكن حتى وهي تنزف، قاومت ولم تسلّم ابنها. يعتقد بعض رجال الميليشيا أن قتل النساء يجلب الشؤم، فلعل ذلك هو السبب الذي جعل المهاجمين يتراجعون ويمضون إلى مهاجمة البيت التالي، واستطاعت نعيمة وأبناؤها الهرب للعثور على ملجأ في قرية أخرى، لكن قوات الدعم السريع هاجمت الموقع الجديد، حسبما حكت، وفي هذه المرة شدوا ابنة أخت نعيمة ذات الأربعة عشر عاماً لاغتصابها، فوقفت نعيمة دونها وقالت لهم اغتصبوني أنا بدلاً منها، فقام رجلان من المسلحين بتجريد نعيمة من ثيابها وأمسكا بها بينما همّ أحد المهاجمين باغتصابها، صعب عليها أن تحكي هذا، لكنها في النهاية بينت كيف استطاعت أن تمنعه من اغتصابها.
ضربها الرجل بكعب بندقيته واستعد لإطلاق النار عليها، لكن شريكه ارتبك وطلب منه تركها وشأنها، وخرجوا دون أن يغتصبوها هي أو ابنة أختها، لعل نعيمة فعلت بمفردها لمنع الاغتصاب في السودان أكثر مما فعل كل زعماء العالم مجتمعين.
اغتيلت والدة نعيمة، وأبوها وأحد أبنائها مفقودان، وقد يكونان ميتين، مضت بالباقين على قيد الحياة من أسرتها إلى أمان معسكر لاجئين في بلدى آدري الحدودية بتشاد، حيث يعالج أحد أبنائها الكبار بعد تعذيبه بقسوة في السودان، معانيا من انهيار عصبي ولا يستطيع أن يتكلم عما جرى له.
يعاني نظير من الكوابيس لكنه يتعافى، وهو متفان في حب أمه، وحكى لي عن شجاعتها، فهو يفهم أنها تلقت الرصاص لكي تنقذ حياته، أما نعيمة فقد تعافت من إصابات الرصاص لكنها تعاني الفقر المدقع، أسألها إن كانت تبعث بنظير إلى مدرسة المخيم، فضحكت من فكرة أن تستطيع تدبير مصاريف المدرسة، قالت «إنني أشعر بالخجل لعجزي عن أن أقدم لك الشاي، لكن ليس لدي شيء»، لكنها لا تزال تدعم أيتاماً في معسكر اللاجئين، وتمثل مساعدة المعرضين للخطر أولوية لها.
سألتها عما لو كانت تريد الانتقام من العرب السودانيين الذين تسببوا لها في كل هذه المأساة، هل تفضل مهاجمة القرى العربية، وقتل الرجال، واغتصاب النساء؟ فبدت مصدومة من السؤال، وقالت لي بحزم «نحن بشر، ونحن مسلمون، وعندنا مبادئ، ولا نريد أن يقع هذا للعرب».
نعيمة، بمعنى ما، حالة استثنائية، وبمعنى آخر هي صورة رائعة لكثير من عوام السودانيين والتشاديين في استجابتهم لهذه الأعمال الوحشية الأخيرة، لقد تخلى العالم إلى حد كبير عن السودان، وممن تخلوا عنه الرئيس بايدن وزعماء آخرون، لكن المجتمع المدني السوداني لا يزال بطوليا بقدر بؤس قيادة السودان العسكرية.
يعمل الأطباء السودانيون بلا أجر، والجماعات المحلية تقيم مطابخ والمتطوعون من اللاجئين يدربون الأطفال المصدومين على الحرف اليدوية التي يبيعون منتجاتها لكسب المال، تحدثت إلى مدربة من أولئك وهي أم سلامة عمر التي قالت إن قوات الدعم السريع اغتالت اثنين من أبنائها وثلاثا من أخواتها، وهي الآن تحاول أن تبرأ بمساعدة الأطفال المصابين بالصدمات النفسية على إعادة بناء حياتهم، ويجدر بكل من يفكر في المساعدة أن ينظر إلى الجماعات الشعبية في التحالف السوداني لتبادل المساعدات (MutualAidSudan.org).
إذاً، صحيح أن السودان يكشف قدرة البشر على الشر، لكنه يذكرنا أيضا بقدرة إنسانية عظيمة بالقدر نفسه على القوة والصمود والشجاعة، ومن ثم فمن الممكن الرجوع من أرض تئن من المجاعة والمجازر والاغتصاب بشعور بالشرف لكونه منتميا إلى الفئة الشجاعة التي ينتمي إليها السودانيون من أمثال نعيمة التي خرجت من أشد الابتلاءات وهي قدوة أخلاقية لنا جميعا.
* نيكولاس كريستوف حاصل على جائزة بوليتزر مرتين، وصدرت سيرته الذاتية حديثا بعنوان «مطاردة الأمل: حياة صحافي»