بقدر ما كانت وثيقة المقترح، الذي تقدمت به وزارة المالية بشأن دمج الهيئات المتشابهة صحيحة في مبدئها؛ فإن التفاصيل التي حملتها الوثيقة أثارت مجموعة من المخاوف تجاه ليس فقط جودة التنفيذ بل أيضاً سلامة الفرضيات ومهنية القواعد التي أعدت عليها الدراسة!
فأول ما اعترفت به الوثيقة، التي رفعتها وزارة المالية، هو القصور في الوثيقة ذاتها، كما ورد في مقدمتها، لناحية الحاجة إلى "دراسة فنية واقتصادية وقانونية"، مما يثير الشكوك في العديد من النسب والأرقام المستهدفة، كتوقع انخفاض باب الرواتب والأجور في ميزانية تلك الجهات بواقع 20 بالمئة على المدى القريب، و50 بالمئة على المدى المتوسط، مع العلم أن إجمالي ميزانيات الجهات المستهدفة للدمج أو الإلغاء يبلغ 726 مليون دينار سنوياً، فيما تصل تكاليف الرواتب فيها 480 مليوناً، أي إن الرواتب تشكل 66 في المئة من إجمالي مصروفات الجهات، وبكل الأحوال ستضاف الرواتب، وما في حكمها من مزايا، إلى ميزانيات الهيئات المدمجة، علاوة على إنشاء قطاعات جديدة في وزارات الدولة، وهي أصلاً متضخمة مالياً وإدارياً.
وفر ضئيل
فمع استثناء الرواتب، فإن الوفر المتوقع في ميزانية الدولة من سياسات الدمج بين الهيئات على المدى القريب 49 مليون دينار، وعلى المدى المتوسط 123 مليوناً سنوياً، أي ما يعادل 0.5 في المئة فقط من مصروفات الميزانية العامة للدولة، هذا مع تحييد فكرة الأثر المتوقع لإخفاق الإدارة الكويتية في احتواء التكاليف المالية أو الأثر السلبي لـ "تعليق" أعمال الهيئات المدمجة لحين إتمام عمليات الدمج كاملة.
ومع التأكيد أن دمج الهيئات الحكومية، التي مثّلت خصوصاً آخر 20 عاماً "شحماً زائداً" على الإدارة العامة هي فكرة صحيحة ومطلوبة، فإن المقترحات التي حملتها وثيقة وزارة المالية تكشف جانباً من أزمة المهنية التي تعانيها الوزارة، ولا تنحصر فقط في جانب قصور الوثيقة واعترافها بالحاجة إلى مزيد من الدراسة، ففكرة دمج 4 جهات هي "تشجيع الاستثمار المباشر - وهيئة مشروعات الشراكة - والجهاز الفني لبرامج التخصيص - والصندوق الوطني للمشروعات الصغيرة والمتوسطة" في كيان واحد، وهي كلها سجلت في مسيرتها فشلاً متفاوتاً في الأعمال والإنجازات، وأفضلها هيئة تشجيع الاستثمار، لا يجذب أكثر من 0.4 بالمئة من حجم الاستثمارات الداخلة لدول مجلس التعاون الخليجي سنوياً... فما بالك بأداء بقية الجهات المدمجة في هذا الكيان الاستثماري!
فهم الأغراض
اللافت أن الدمج الذي استهدف الجهات الأربع، آنفة الذكر، قد يكون صحيحاً من حيث الفكرة، لكنه بالتأكيد لن يكون نافعاً دون رفع الكفاءة وتطوير البيئة الاستثمارية المحيطة، والأهم من ذلك تحديد مستهدفات واضحة لأغراض أي هيئة مدمجة أم لا، بالتالي المحاسبة وفق الأهداف التي تحققت أو لم تتحقق. ولن نعلّق على جميع المقترحات التي تضمنتها الوثيقة، لكن بعضها يشير إلى أزمة عميقة لدى وزارة المالية في فهم أغراض المؤسسات والهيئات، فمثلاً اقترحت الوثيقة ضم الإدارة العامة للجمارك مع وزارة الداخلية، مبررة المقترح بتشابه طبيعة العمل من ناحية الضبط والتفتيش والرقابة (...)، مع أن الجمارك بالأصل هي جهة إيرادات وتطوير لحركة التجارة وتدفق السلع، وإن كانت هناك ضرورة لضمها أو دمجها فالأقرب لنشاطها هي وزارة المالية، ناهيك عن إلحاق الأمانة العامة للأوقاف، وهي كيان استثماري بوزارة الأوقاف ذات الطبيعة الدينية، وكان الأجدر إلحاق أمانة الأوقاف بالهيئة العامة لشؤون القصّر، نظراً إلى وجود صيغة مشتركة في إدارة أموال الغير، أما فكرة دمج الوكالة الكويتية لمكافحة المنشطات مع هيئتي الشباب والرياضة فهو تكشف أيضاً ضعف التشاور الحكومي بين الجهات ذات العلاقة، إذ إن وجود وكالة كويتية لمكافحة المنشطات أمر مطلوب من جهات ومنظمات رياضية دولية، في إطار قانون الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات (وادا)، وكان تأسيس الوكالة في الكويت عام 2018 واحداً من متطلبات رفع الإيقاف الرياضي عن البلاد في تلك الفترة.
تبعية وتجاهل
كما أن إلحاق بنك الائتمان بالهيئة العامة للرعاية السكنية يمثّل تراجعاً عن تطوير عمل بنك الائتمان بوصفه جهازاً من المخطط له أن يطرح بدائل تمويلية واستثمارية لراغبي الرعاية السكنية كالرهن العقاري أو خيارات قبول الودائع ومحافظ الاستثمار، والأمر نفسه لوحدة التحريات المالية التي يفترض أن تتبع جهة اقتصادية كوزارة المالية أو حتى بنك الكويت المركزي، فضلا عن أن المقترح تجاهل جهات وهيئات دون مبرر عن خيارات الدمج دون مبرر وكأنها سقطت سهواً، رغم وجود جهات أقرب لها من حيث الاختصاص والأعمال كجهاز متابعة الأداء الحكومي، الذي يسهل دمجه مع ديوان الخدمة المدنية أو جهاز المسؤولية الطبية، الذي من المنطقي إدراجه ضمن قطاعات وزارة الصحة العامة. اللافت في مسألة الدمج هي الرغبة في تقويض هيئات هي الأفضل بين الهيئات الأخرى في العمل والنجاح، كهيئة أسواق المال أو معهد الكويت للأبحاث العلمية بتحويلها من هيئة مستقلة إلى ملحقة، مما يقوض جانباً من استقلاليتها، وهنا نتحدث عمّا نتابعه من أعمال هيئة أسواق المال التي نجحت خلال سنوات عملها في العديد من المحطات، لا سيما ردع المتلاعبين أو ترقية سوق الكويت على المؤشرات الدولية، أما إلغاء المجلس الأعلى للتخطيط، وهو كيان استشاري للحكومة يضم شخصيات مستقلة حرة في إبداء آرائها بحجة وجود الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، وهي جهة حكومية؛ فيبين عدم الرغبة في سماع أي آراء أو انتقادات للسياسات الحكومية... حتى ولو كان الاختيار من الحكومة نفسها.
مرجعية الاقتصاد
كي يكون دمج الهيئات ناجحاً؛ يجب ربطه بمرجعية احتياجات الاقتصاد والمالية العامة، وهنا لا يجب الحديث عن الخفض الضئيل المتوقع في ميزانية هذه الجهات، بل رفع كفاءة هذه الجهات وتنمية أدوارها من حيث الكفاءة التشغيلية وتقويم الأداء، وإلا يكون الدمج دعماً لزيادة الحجم الضخم من القطاعات في الوزارات وجيش "الوكلاء المساعدين" الذين يشكلون عبئاً على الجهاز التنفيذي للدولة، مع إعادة التأكيد دائماً وأبداً على أن كفاءة أي سياسات عامة تقاس بما تعالجه من اختلالات الاقتصاد كالإصلاح المتتابع للمالية العامة وسوق العمل وتنمية حجم ومكونات الناتج المحلي، فضلاً عن جذب التكنولوجيا والاستثمارات الأجنبية وتحفيز المبادرات في السوق... وهذه كلها متطلبات قد تكون بعيدة المنال إذا أوكلت مهمة جوانب كثيرة منها لوزارة المالية، التي أعدت وثيقة اعترفت سلفاً بضعف مهنيتها.
فأول ما اعترفت به الوثيقة، التي رفعتها وزارة المالية، هو القصور في الوثيقة ذاتها، كما ورد في مقدمتها، لناحية الحاجة إلى "دراسة فنية واقتصادية وقانونية"، مما يثير الشكوك في العديد من النسب والأرقام المستهدفة، كتوقع انخفاض باب الرواتب والأجور في ميزانية تلك الجهات بواقع 20 بالمئة على المدى القريب، و50 بالمئة على المدى المتوسط، مع العلم أن إجمالي ميزانيات الجهات المستهدفة للدمج أو الإلغاء يبلغ 726 مليون دينار سنوياً، فيما تصل تكاليف الرواتب فيها 480 مليوناً، أي إن الرواتب تشكل 66 في المئة من إجمالي مصروفات الجهات، وبكل الأحوال ستضاف الرواتب، وما في حكمها من مزايا، إلى ميزانيات الهيئات المدمجة، علاوة على إنشاء قطاعات جديدة في وزارات الدولة، وهي أصلاً متضخمة مالياً وإدارياً.
وفر ضئيل
فمع استثناء الرواتب، فإن الوفر المتوقع في ميزانية الدولة من سياسات الدمج بين الهيئات على المدى القريب 49 مليون دينار، وعلى المدى المتوسط 123 مليوناً سنوياً، أي ما يعادل 0.5 في المئة فقط من مصروفات الميزانية العامة للدولة، هذا مع تحييد فكرة الأثر المتوقع لإخفاق الإدارة الكويتية في احتواء التكاليف المالية أو الأثر السلبي لـ "تعليق" أعمال الهيئات المدمجة لحين إتمام عمليات الدمج كاملة.
ومع التأكيد أن دمج الهيئات الحكومية، التي مثّلت خصوصاً آخر 20 عاماً "شحماً زائداً" على الإدارة العامة هي فكرة صحيحة ومطلوبة، فإن المقترحات التي حملتها وثيقة وزارة المالية تكشف جانباً من أزمة المهنية التي تعانيها الوزارة، ولا تنحصر فقط في جانب قصور الوثيقة واعترافها بالحاجة إلى مزيد من الدراسة، ففكرة دمج 4 جهات هي "تشجيع الاستثمار المباشر - وهيئة مشروعات الشراكة - والجهاز الفني لبرامج التخصيص - والصندوق الوطني للمشروعات الصغيرة والمتوسطة" في كيان واحد، وهي كلها سجلت في مسيرتها فشلاً متفاوتاً في الأعمال والإنجازات، وأفضلها هيئة تشجيع الاستثمار، لا يجذب أكثر من 0.4 بالمئة من حجم الاستثمارات الداخلة لدول مجلس التعاون الخليجي سنوياً... فما بالك بأداء بقية الجهات المدمجة في هذا الكيان الاستثماري!
فهم الأغراض
اللافت أن الدمج الذي استهدف الجهات الأربع، آنفة الذكر، قد يكون صحيحاً من حيث الفكرة، لكنه بالتأكيد لن يكون نافعاً دون رفع الكفاءة وتطوير البيئة الاستثمارية المحيطة، والأهم من ذلك تحديد مستهدفات واضحة لأغراض أي هيئة مدمجة أم لا، بالتالي المحاسبة وفق الأهداف التي تحققت أو لم تتحقق. ولن نعلّق على جميع المقترحات التي تضمنتها الوثيقة، لكن بعضها يشير إلى أزمة عميقة لدى وزارة المالية في فهم أغراض المؤسسات والهيئات، فمثلاً اقترحت الوثيقة ضم الإدارة العامة للجمارك مع وزارة الداخلية، مبررة المقترح بتشابه طبيعة العمل من ناحية الضبط والتفتيش والرقابة (...)، مع أن الجمارك بالأصل هي جهة إيرادات وتطوير لحركة التجارة وتدفق السلع، وإن كانت هناك ضرورة لضمها أو دمجها فالأقرب لنشاطها هي وزارة المالية، ناهيك عن إلحاق الأمانة العامة للأوقاف، وهي كيان استثماري بوزارة الأوقاف ذات الطبيعة الدينية، وكان الأجدر إلحاق أمانة الأوقاف بالهيئة العامة لشؤون القصّر، نظراً إلى وجود صيغة مشتركة في إدارة أموال الغير، أما فكرة دمج الوكالة الكويتية لمكافحة المنشطات مع هيئتي الشباب والرياضة فهو تكشف أيضاً ضعف التشاور الحكومي بين الجهات ذات العلاقة، إذ إن وجود وكالة كويتية لمكافحة المنشطات أمر مطلوب من جهات ومنظمات رياضية دولية، في إطار قانون الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات (وادا)، وكان تأسيس الوكالة في الكويت عام 2018 واحداً من متطلبات رفع الإيقاف الرياضي عن البلاد في تلك الفترة.
تبعية وتجاهل
كما أن إلحاق بنك الائتمان بالهيئة العامة للرعاية السكنية يمثّل تراجعاً عن تطوير عمل بنك الائتمان بوصفه جهازاً من المخطط له أن يطرح بدائل تمويلية واستثمارية لراغبي الرعاية السكنية كالرهن العقاري أو خيارات قبول الودائع ومحافظ الاستثمار، والأمر نفسه لوحدة التحريات المالية التي يفترض أن تتبع جهة اقتصادية كوزارة المالية أو حتى بنك الكويت المركزي، فضلا عن أن المقترح تجاهل جهات وهيئات دون مبرر عن خيارات الدمج دون مبرر وكأنها سقطت سهواً، رغم وجود جهات أقرب لها من حيث الاختصاص والأعمال كجهاز متابعة الأداء الحكومي، الذي يسهل دمجه مع ديوان الخدمة المدنية أو جهاز المسؤولية الطبية، الذي من المنطقي إدراجه ضمن قطاعات وزارة الصحة العامة. اللافت في مسألة الدمج هي الرغبة في تقويض هيئات هي الأفضل بين الهيئات الأخرى في العمل والنجاح، كهيئة أسواق المال أو معهد الكويت للأبحاث العلمية بتحويلها من هيئة مستقلة إلى ملحقة، مما يقوض جانباً من استقلاليتها، وهنا نتحدث عمّا نتابعه من أعمال هيئة أسواق المال التي نجحت خلال سنوات عملها في العديد من المحطات، لا سيما ردع المتلاعبين أو ترقية سوق الكويت على المؤشرات الدولية، أما إلغاء المجلس الأعلى للتخطيط، وهو كيان استشاري للحكومة يضم شخصيات مستقلة حرة في إبداء آرائها بحجة وجود الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، وهي جهة حكومية؛ فيبين عدم الرغبة في سماع أي آراء أو انتقادات للسياسات الحكومية... حتى ولو كان الاختيار من الحكومة نفسها.
مرجعية الاقتصاد
كي يكون دمج الهيئات ناجحاً؛ يجب ربطه بمرجعية احتياجات الاقتصاد والمالية العامة، وهنا لا يجب الحديث عن الخفض الضئيل المتوقع في ميزانية هذه الجهات، بل رفع كفاءة هذه الجهات وتنمية أدوارها من حيث الكفاءة التشغيلية وتقويم الأداء، وإلا يكون الدمج دعماً لزيادة الحجم الضخم من القطاعات في الوزارات وجيش "الوكلاء المساعدين" الذين يشكلون عبئاً على الجهاز التنفيذي للدولة، مع إعادة التأكيد دائماً وأبداً على أن كفاءة أي سياسات عامة تقاس بما تعالجه من اختلالات الاقتصاد كالإصلاح المتتابع للمالية العامة وسوق العمل وتنمية حجم ومكونات الناتج المحلي، فضلاً عن جذب التكنولوجيا والاستثمارات الأجنبية وتحفيز المبادرات في السوق... وهذه كلها متطلبات قد تكون بعيدة المنال إذا أوكلت مهمة جوانب كثيرة منها لوزارة المالية، التي أعدت وثيقة اعترفت سلفاً بضعف مهنيتها.