في ليلة موسيقية رفيعة، نجح الحفل الذي أحيته أوركسترا باريس الفيلهارموني الدولي - بقيادة المايسترو أمين قويدر، في قاعة الشيخ جابر العلي الموسيقية بمركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي - نجاحاً مستحقاً، ونال استحساناً كبيراً من الجماهير. ففي الفصل الأول، تألقت الأوركسترا بالمعزوفات الكلاسيكية العالمية، كما أظهرت فخامة الموسيقى الكويتية، من خلال إعادة توزيع بعض الأعمال الشعبية المعروفة.
وشهدت الأمسية حضور الأمين العام المساعد لقطاع الفنون في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مساعد الزامل، وسفير فرنسا لدى الكويت أوليفييه غوفان، ورئيس المعهد الفرنسي بونوا كاتالا، وغيرهم من مُحبي الموسيقى الكلاسيكية.
تبادل الثقافات
وبعد الترحيب بالحضور، قال الزامل، إنهم يستكملون برنامج الموسم الثقافي في «الوطني للثقافة»، من خلال تقديم هذا الحفل الموسيقي الممزوج بتبادل الثقافات وتلاقي مشاعر الحس بالفن والإبداع، باستضافة أوركسترا باريس الفيلهارموني الدولي، بالتعاون بين السفارة الفرنسية والمعهد الفرنسي، وباحتضان من مركز جابر الثقافي، ومشاركة من الفنانين الكويتيين والموسيقيين بإشراف د. محمد البعيجان، وتوزيع عبدالعزيز شبكوه وراكان المرزوقي، حيث الاستماع إلى فخامة العزف والأداء برسم لوحة إبداعية من المقطوعات الموسيقية العالمية، وباستهلال من المقطوعات الكويتية، لتتناغم مع الأوركسترا بروح كويتية تسكن وجدان الجمهور صاحب الذوق الرفيع، وهذا ما يتطلع إليه المجلس الوطني من خلال استراتيجيته الجديدة بعمل الشراكات الإبداعية على كل المستويات الثقافية والفنية والأدبية.
وأضاف الزامل أن هذه الشراكات والمبادرات من المبدعين والمهتمين بالشأن الثقافي والفني ستكون أكثر تفاعلاً مع انطلاق الحدث الأهم للموسم المقبل، وهو «الكويت عاصمة للثقافة والاعلام العربي 2025»، لافتاً إلى أنه سيكون للمجلس الوطني إطلالة رائعة من خلال المهرجانات والفعاليات ذات المستوى العالي في التقديم والحضور الإبداعي الفخم.
الموسيقى التراثية الكويتية
بعد ذلك، انطلقت الأوركسترا بالمقطوعات الكويتية، صوت السهاري، وألا يا أهل الهوى، وأبشري يا عين، ويا خالق الخلق، وهي أعمال من القوالب الغنائية التي وضع ألحانها رواد الموسيقى التراثية الكويتية، وفي هذا الحفل أُعيدت صياغتها بصورة مقطوعات من القوالب الموسيقية الآلية، ليمكن عزفها في توزيع أوركسترالي بمشاركة عازفين كويتيين.
واستهل الحفل بمقطوعة صوت السهاري، وهي أغنية معروفة للفنان الراحل عوض دوخي، من ألحانه بالاشتراك مع الملحن نجيب رزق الله، وأعاد المؤلف الموسيقي عبدالعزيز شبكوه توزيعها أوركسترالياً، لتصبح مؤلفاً جديداً قائماً بذاته، وأيضاً أبدع بمقطوعة «طريق الذكريات»، حيث اعتمدت هذه المقطوعة على «تيمة» لحنية من أغنية معروفة للمطربة عايشة المرطة، وهي «أبشري يا عين»، لكن شبكوه صنع منها مقطوعة حافلة بالتنافرات والأضداد الموسيقية، ليبين فيها كيف يمكن للتنافرات إذا استُخدمت على النحو الصحيح أن تسفر عن إحداث الهارموني أو التجانس الموسيقي، حيث يرسم حالة درامية تتصارح فيها ذكريات الحنين والشجن مع ذكريات البهجة والفرح التي تعكسها نغمات الفالس. وأيضاً مقطوعة «القرين»، المستوحاة من لحن كويتي قديم صوت شامي، هو «يا خالق الخلق»، ألحان عبدالله الفرج.
في حين تكفَّل راكان المرزوقي بإعادة صياغة «ألا يا أهل الهوى»، من السامريات الكويتية المعروفة، ألحان الفنان الكويتي عبدالله فضالة. ويُعد «السامري» من القوالب الغنائية القديمة التي تحتوي ألحانها على أوزان مختلفة.
«رقصة الباكانالي»
وبعد استراحة قصيرة، انطلق الفصل الثاني، حيث استعرض العازفون مهاراتهم، وتناغم أداؤهم، فاستهلوا بـ «رقصة الباكانالي»، وهي عبارة عن مقطوعة حماسية مفعمة بالحيوية من أوبرا «شمشون ودليلة» للموسيقار الفرنسي كامي سان صانس، تبعتها مقطوعة «بوليرو»، التي تُعد من أشهر أعمال موريس رافيل، الذي ارتبط بالمدرسة الفنية الانطباعية، وكان مشهوراً بإتقانه ترتيب المقطوعات الموسيقية.
ولم تكتفِ الأوركسترا بهاتين الرائعتين، بل قدَّمت أيضاً «كسارة البندق با دي دو: خطوة ثنائية»، وهي إحدى روائع المؤلف الموسيقي تشايكوفسكي، وقد بدأ تأليفها عام 1891 وأنهاها عام 1892، ومن ثم مقطوعة «المارش السلافي» للموسيقار تشايكوفسكي.
ومن ثم عزفت مقطوعة «الفالس رقم 2» للموسيقار ديميتري شوستاكوفيتش، وهي تمتزج في هذا الفالس من ملامح الأناقة الفنية مع مشاعر الكآبة التي تتجلى في ألحانه المتدفقة وتوزيعاته الأوركسترالية الحافلة بالجمال والحزن الداخلي، وهو ما يعكس قدرة شوستاكوفيتش اللافتة على إضفاء حس عاطفي عميق حتى على الأشكال الموسيقية الخفيفة.
واختُتمت الليلة بمقطوعة «رقصة كان كان – حفلة في الجحيم»، للموسيقار جاك أوفنباخ، وهذه الرقصة من أوبرا «أورفيوس في الجحيم»، وهي قطعة سريعة ومفعمة بالحيوية.
تجدر الإشارة إلى أنه قبل بدء الحفل الموسيقي تم افتتاح معرض «عالم القوس» لمجموعة د. وليد حمد السيف للآلات الموسيقية، بحضور الزامل والسفير غوفان. وتتضمَّن المجموعة نحو 300 آلة موسيقية من خمس قارات تمتد من العصر الحجري حتى الوقت الحاضر، وقد استغرق تجميع هذه المجموعة 50 عاماً.
وقال الشيخ مبارك العبدالله: «لي الشرف أن أكون من الداعمين لهذا الحفل الموسيقي، وللثقافة الفرنسية وللعلاقات الفرنسية - الكويتية، وهذه أول مرة نشهد فيها حفلاً من هذا النوع في دولة الكويت»، معتبراً أن «وجود هذه الفرقة العريقة في الكويت يكرّس ويدعم العلاقات الثنائية بين الدولتين من الجانب الثقافي والحضاري».
الموسيقى تقرب الشعوب
مساعد وزير الخارجية لشؤون أوروبا السفير صادق معرفي عبر عن سعادته للمزج بين الموسيقى الكويتية والاوركسترا الفرنسية، قائلاً لـ«الجريدة»، إن « الموسيقى دائماً تقرّب بين الشعوب»، مشيراً إلى أن «الجمهور الكويتي الذي ملأ القاعة بالكامل، كان فخوراً جداً باستماعه إلى مزج هذا الفن الكويتي مع أوركسترا فرنسية، وسنكون فخورين أكثر اذا باتت لدينا فرقة اوركسترا كويتية كاملة».
الصداقة الدائمة
وفي كلمة ألقاها في بداية الحفل، قال السفير الفرنسي المعيّن لدى البلاد أوليفييه غوفان: «تمثل هذه الليلة بداية حفلين موسيقيين استثنائيين لا يحتفيان بجمال الموسيقى فحسب، بل أيضاً بالصداقة الدائمة والتعاون الثقافي بين فرنسا والكويت». وأضاف: «أتقدم بالشكر للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ولنائب رئيس مجلس ادارة المجموعة العالمية القابضة للشيخ مبارك العبدالله، وأود أن أعبر عن امتناني لسمو الشيخ ناصر المحمد، على دعمه الثابت للفرانكفونية وفعالياتنا الثقافية».
وفي تصريح على هامش الحفل، وصف السفير الفرنسي الحفل بـ«الحدث غير العادي لأنها المرة الأولى التي تأتي فيها أوركسترا باريس الدولية الفيلهارمونية إلى الكويت والمثير للاهتمام هو أنها تعزف ليس فقط مع موسيقييها ولكن أيضاً مع موسيقيين كويتيين، لذلك بالنسبة لي كدبلوماسي، نحن نقوم بالضبط بما يفترض أن نقوم به لبناء الجسور بين بلدينا وثقافتينا وشعبينا، هذا ما يفعلونه بهذه التوليفة الرائعة من الموسيقى الكويتية والموسيقى والكلاسيكية أيضا الأوركسترا الكلاسيكية».
وأعرب غوفان عن إعجابه الكبير بـ «ذائقة الجمهور الكويتي، الذي كان يستمع بعناية إلى كل نغمة من الحفل».
فرقة وطنية
وفي تصريح على هامش الحفل، قال الزامل: «أنا الآن في صدد الاعداد لإنشاء الفرقة الوطنية الموسيقية، وستكون على مرحلتين: الاولى أكاديمية للأطفال، والثانية، فرقة وطنية موسيقية تكون على غرار أوركسترا كويتية تهتم بأرشفة الألحان الكويتية الرائعة وتقديمها بشكل أوركسترالي، ونتمنى أن يرى هذ المشروع النور في العام المقبل».
الجمهور الكويتي
وقال المرزوقي الذي شارك في هذا الحفل بعمل واحد، والذي وصف شبكوه بأنه «أستاذي»،: «تفاجأت بامتلاء القاعة بهذا الجمهور الكويتي المتذوّق والجميل وبتفاعله مع الموسيقى».
أما شبكوه، الذي شارك في 3 أعمال، فوصف تعامله مع الفرقة الموسيقية بأنه «راقٍ للغاية وسلس، ومن دون أي تعقيدات، وقد استمعوا إلى كل ما طلبناه منهم»، لافتاً إلى أن الموضوع «كان سريعاً من حيث التمرين والتأليف، والذي تمّ فقط خلال أسبوع».
قويدر: الجمهور الكويتي ذواق
وصف المايسترو قويدر الجمهور الكويتي بأنه «جمهور رائع جداً وذوّاق، وكان لي الشرف الكبير أن أعزف مع فرقتي أمام هذا الجمهور المتألّق». وأوضح أن «الفكرة أتت من المركز الثقافي الفرنسي، الذي اقترح علينا فكرة هذه الحفلة، ونحن تجاوبنا معه بكل فرح»، لافتاً إلى أن عدد الموسيقيين الفرنسيين 60 شخصاً والكويتيين 10 أشخاص.
ومن جهته، الدكتور المايسترو والموزّع والملحّن محمد البعيجان قال إن «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، احتضن فكرة إقامة هذا الحفل، والفكرة كبيرة جداً وأنجزت بوقت قياسي»، لافتاً إلى أن عدد الجمهور بلغ الـ 1000 شخص، موضحاً أنه يرتّب مع المايسترو أمين قويدر لعمل في المستقبل.
«عالم القوس» يعرض 50 قطعة موسيقية
على هامش الحفل، يستقبل الزوار معرض «عالم القوس» لصاحبه الدكتور وليد السيف، الذي عرض نحو 50 قطعة من آلاته الموسيقية التي يبلغ عددها نحو 300 والتي جمعها على مدى 50 عاماً من 5 قارات.
وقال السيف لـ«الجريدة»: «هذه الآلات من مقتنياتي الشخصية التي تعزف بالقوس، وهي من آسيا وأوروبا وإفريقيا ومن دول عربية، وعرضتها بشكل جغرافي وزماني، أي من العالم القديم إلى العالم الحديث، مثل الكمنجة والكمان والتشيلو والكاونتر باس وهذه من أحدث ما توصلت إليه صناعة آلة القوس، ولدي آلات تعود إلى نحو 200 و300 و500 سنة».