من صيد الخاطر: «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن»

نشر في 04-10-2024
آخر تحديث 03-10-2024 | 19:56
 طلال عبدالكريم العرب

ما كُلُّ ما يتمنَّى المرء يدركهُ

تجري الرياح بما لا تشتهي السّفنُ

بيت شعر قاله الشاعر العبقري أبوالطيب المتنبي، وفعلاً، السفن الشراعية القديمة تريد أن تجري الرياح كما تشتهيها هي، وهذه رغبة لا يمكن تحقيقها، فأمر الرياح ليس بيد السفن، ولا بيد قباطنتها، وكذلك هناك بعض الأمور لا يمكن أن تجري كما يريدها صاحبها، وعليه أن يتقبلها كما هي.

فهو بيت شعر عنى به الشاعر أن الحياة لا تسير دائماً وفق رغبات الإنسان، فجرى قوله إلى يومنا هذا مجرى المثل، وشاع تداوله بهذا المعنى، تعبيراً اصطلاحياً لما فيه من البلاغة.

إلا أن الشاعر نضال جابر لم يتقبل قاعدة المتنبي على علَّاتها، رافضاً التسليم بالعجز والفشل، وداعياً إلى تحدي الصعاب، والتغلب على هزيمة تحكَّمت فيها ظروف الجهل والخوف والتخلف، والتقصير في طلب العلم والعمل، والتغلب عليها بالتصميم والمثابرة، فردَّ على المتنبي، قائلاً في قصيدة جميلة، ولكن بشكل مُبالغ فيه:

تجري الرياح كما تجري سفينتنا

نحن الرياح ونحن البحرُ والسفنُ

إن الذي يرتجي شيئاً بهمَّتهِ

يلقاهُ لو حاربَتْهُ الإنسُ والجنُّ

فاقصد إلى قمم الأشياءِ تدركها

تجري الرياح كما رادت لها السفنُ

فردّ عليه أحدهم ساخراً:

فلتأتِ الرياح كما تشتهي

إني وقومي لا نملك السفُنَا

وردّ آخر:

ولستُ أهتمُّ كيف الريحُ آتية

إني وقومي لسنا نملكُ السُّفُنَا

وردّ غيره:

تجري الرياحُ بما شاءَ الإلهُ لها

للهِ نحنُ وموجُ البحرِ والسُّفُنُ

والواضح هنا أن هناك مَنْ يتحكَّم به القدر، وهناك آخرون يقاومونه بالهروب منه إلى قدرٍ آخر، وقد حصل أن خرج سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى بلاد الشام، وكان معه بعض الصحابة، فعلِمَ وهو في طريقه أن مرض الطاعون انتشر هناك، وقضى على كثير من الناس، فقرر الرجوع، ومنع مَنْ معه من دخول الشام، فسأله الصحابي الجليل أبوعبيدة بن الجراح، أفِرارٌ هو من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ فردَّ عليه الفاروق: لو أن غيرك قالها يا أبا عبيدة؟

واستطرد عمر قائلاً: نعم نَفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو أن لك إبلاً هبطت وادياً له جهتان: إحداهما خصيبة، والأخرى جديبة، أليس لو رعيت في الخصيبة رعيتها بقدر الله، ولو رعيت في الجديبة رعيتها بقدر الله؟

وهناك مَنْ حذَّر من الاستسلام للقدر، وتَقبُّل الفشل من دون مقاومة، قائلاً حكمة جميلة: ليس الرجل مَنْ يستسلم للقدر، إنما الرجل مَنْ ينازع القدر بالقدر، فيدفع الأقدار بالأقدار، ويدفع قَدَر المرض بقدر الدواء، وقدر الجهل بقدر العلم، فكلاهما قدر، وبهذا يفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أو يتحصَّن من قدر الله بقدر الله.

back to top