زملاء الكلب... حملة الشهادات الوهمية
في مشهد كوميدي أسود طالعتنا وسائل الإعلام البريطانية منذ فترة بخبر يتعلق بقيام صحافي يعمل في هيئة الإذاعة البريطانية، بشراء شهادة ماجستير لكلبه من جامعة وهمية شهيرة في لندن تخصصت طوال عقدين من الزمن بإغراق المجتمعات العربية بشهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه الوهمية مقابل المال، دون أي اعتبارات علمية أو أكاديمية أو حتى أخلاقية، وبناءً على ذلك أصبح ذلك الكلب (تجاوزاً) زميلاً لهؤلاء الوهميين الحاصلين على شهاداتهم وألقابهم من تلك الجامعة ومن مثيلاتها في بريطانيا وأميركا وغيرهما من الدول التي تنشط فيها مثل تلك المؤسسات الوهمية.
ومما لا شك فيه أن مجتمعاتنا تشهد أزمات متعددة يصاحبها انحدار في سلم القيم واهتراء في مقاييس الحلال والحرام والصواب والخطأ والمقبول والمُعيب، وبالتالي فإن تلك الانقسامات العمودية في المعايير الأخلاقية التي تحدث تبقى في إطارها النظري مادام للقانون هيبته وسلطانه على مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأكاديمية، إلا أن الفساد وغياب الأنظمة الرقابية الحكومية أو فشلها ساهم مؤخراً ببروز عدة ظواهر اجتماعية سلبية تحاول جاهدةً التموضع على حساب السياق المنطقي والقانوني المستقر في المجتمعات.
ومن أهم تلك الظواهر السلبية ظاهرة شراء الشهادات العلمية والألقاب المثيرة اجتماعياً، والتي تمثل مدخلاً للأشخاص لصناعة مجدهم الزائف من خلال تمكينهم من اكتساب المكانة والوجاهة في المجتمع، أو أنهم يوظفون تلك الألقاب كأدوات إضافية لممارسة النصب والاحتيال والتدليس، مع ملاحظة أن هناك نسبة قليلة من هؤلاء يتميزون بالسذاجة والسطحية مما سهل التدليس عليهم والتغرير بهم وإقناعهم بصحة وقانونية تلك الشهادات والألقاب واستغلالهم مادياً.
ولا تقتصر ظاهرة الشهادات الوهمية على الوطن العربي بل هي منتشرة في معظم دول العالم، وخاصة غير المتحضرة، إلا أنها تأخذ منحىً خطيراً على الصعيد العربي بسبب تفشي الفساد وعدم وجود قوانين تجرم هذه الظاهرة بصورة واضحة وعدم وجود أنظمة رقابية وإجرائية حكومية فعالة، مما يجعلنا ندق ناقوس الخطر بهدف مواجهتها.
إن الدرجات العلمية الوهمية والمزورة المذكورة تُمنح بناء على الاحتيال والخداع، وتأتي بغلاف أنيق من خلال استخدام أدوات التكنولوجيا وتقنيات الليزر والتسويق الإلكتروني المحترف الذي يوهم الكثير من الأشخاص بالمصداقية والواقعية، وعادةً ما تقوم دكاكين بيع الوهم باختيار أسماء جامعات تتشابه الى حد كبير مع أسماء جامعات حقيقية أو أسماء مدن رئيسة ومشهورة في أوروبا وأميركا، وهذه الجهات المانحة للشهادات الوهمية في حقيقتها هي عبارة عن مؤسسات تجارية أو شركات ذات مسؤولية محدودة يتم تأسيسها طبقاً لقوانين الشركات دون وجود أي صفة أكاديمية أو تعليمية على أرض الواقع، ولا تخضع لسلطة الجهات الرقابية والإشرافية الاكاديمية في تلك الدول، وبالتالي فهي شركات واجهة تمارس نشاطات غير قانونية بهدف جني الأموال من خلال بيع الشهادات الوهمية والمزورة عديمة القيمة العلمية خارج تلك الدول وأحياناً داخلها، ولا يمكن معادلتها علمياً أو الاعتداد بها بشكل قانوني وعلمي.
ومن صور ظاهرة بيع الوهم ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار بمنح ألقاب وهمية كسفراء السلام وسفراء التنمية وسفراء النوايا الحسنة وما إلى ذلك من الألقاب والصفات الوهمية التي تجد للأسف لها اهتماماً ومصداقية لدى عامة الناس، وتجد سوقاً رائجة لدى الكثير من الأشخاص الذين يبحثون عن عوض يسدون به نقصهم في إطار حالة أطلق عليها أحد الفلاسفة (قلق السعي للمكانة) وهي وصف لمن يبحثون عن المجد الزائف المغلف بالزور والبهتان معتقدين أن كل شيء يشترى بالمال حتى الشهادات العلمية والألقاب الدبلوماسية.
وعليه فإن تلك الدكاكين تسهم في هدم الأجيال وتلويث طهارة العلم من خلال بيع تلك الكراتين الورقية التي لا تُسمن علمياً ولا تغني من جوع معرفي، وتؤسس لمافيات من نوع جديد تمارس أعمال التزوير والتدليس وبيع الألقاب والمناصب الوهمية وهذا بطبيعته لا يختلف عن تزييف العملات فكلتا الجريمتين تصنع تضخماً مزيفاً يهدم المجتمعات ويقوض خطط التنمية فيها.
إن خطورة ظاهرة الشهادات الوهمية ليست محصورةً بالأشخاص الحاصلين عليها، بل إنها تمتد لتمثل خطراً على الأمن الوطني للدول بأبعاده العلمية والاقتصادية والاجتماعية، ويستخف بمؤسساتها وسيادة قوانينها، ويمس بهيبتها، ويشكل أحد أبواب الفساد فيها، وهو أيضاً جريمة بحق المجتمعات من خلال العبث بقيمها والاعتداء على حقوق الآخرين، مما يستوجب ضرورة المواجهة التشريعية لهذه الظاهرة بهدف القضاء عليها وحماية المجتمع من آثارها السلبية والخطيرة.
* أستاذ جامعي ومستشار قانوني- لندن.