قدر لبنان أن يعيش منذ استقلاله على حافة التوازن الطائفي الهش، وأن يكون من «دول الطوق» التي تحيط بفلسطين المحتلة وعلى تماس مباشر مع كيان غاصب لا يعرف رحمة ولا يُؤمن له جانب، مما جعل استقراره السياسي والأمني على حافة المنزلقات الكبرى والتحولات الدراماتيكية التي عادة ما ترسم معالمها بعنف الاغتيالات السياسية التي تنسب بشكل تلقائي الى تدخلات خارجية وعمالة داخلية!
فمنذ اغتيال أحد أركان الاستقلال الرئيس رياض الصلح في عام 1951، ومروراً ببعض الاغتيالات ذات الطابع السياسي أو الطائفي كاغتيال الزعيم معروف سعد عام 1975، عاش لبنان حلقات متتالية من الاغتيالات المؤثرة سياسياً، والتي كان ضحيتها أبرز الشخصيات الوطنية والمعتدلة التي كان لها رؤيتها ودورها في إعادة اللحمة الوطنية، ونذكر في السياق اغتيال الرئيس رشيد كرامي في 1/6/1987، واغتيال المفتي حسن خالد في 16/5/1989، واغتيال رينيه معوض في ذكرى الاستقلال بتاريخ 22/11/1989، وصولاً الى سلسلة الاغتيالات التي طالت ابتداء من عام 2005 بعض الشخصيات السياسية والأمنية وأصحاب الرأي من رجالات ما يسمّى «14 آذار» ونذكر منهم: جورج حاوي، ووليد عيدو، وجبران تويني، وسمير قصير وإنطوان غانم... إلخ.
ورغم خطورة الاغتيالات المذكورة أعلاه وما تركته من آثار وتداعيات، يعدّ اغتيال كل من الزعيم كمال جنبلاط، والنائب طوني فرنجية، والرئيس بشير الجميل، والرئيس رفيق الحريري، وأخيراً السيد حسن نصرالله، أبرز خمسة اغتيالات ترددت أصداؤها بشكل مدوّ في لبنان والمحيط وربما العالم، وغيّرت في الواقع السياسي اللبناني محدثة تحولات جذرية في المشهد العام وفي توازنات القوى محلياً وخارجياً.
***
كان كمال جنبلاط، زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، أحد أبرز القادة السياسيين في لبنان التزاماً بالقضايا القومية والعربية، وقد أدى أدواراً بارزة في بدايات الحرب وفي المواقع السياسية التي شغلها الى أن تم اغتياله في 16/3/1977، مما شكّل نقطة تحول في مسار الحرب الأهلية، حيث شهدت مناطق الجبل توترات طائفية أدت إلى نزاعات دموية بين الدروز والمسيحيين انتهت بتهجير عدد من القرى المسيحية وتفاقم تعقيدات المشهد الطائفي في لبنان، مما عزز لاحقاً من وجود النفوذ السوري ودوره في لبنان.
ومن ثم بتاريخ 13/6/1978 تم اغتيال النائب طوني فرنجية مع عائلته ومجموعة من مرافقيه، وهو ابن الرئيس السابق سليمان فرنجية وأحد أبرز الشخصيات المارونية التي كانت مرشحة ومؤهلة لتأدية دور سياسي بارز، الأمر الذي شكّل بداية شرخ كبير ما زالت تداعياته مستمرة الى الآن في وحدة الصف المسيحي، مما أضعف الدور السياسي لواحدة من أبرز الطوائف المؤسسة للكيان اللبناني، وشكّل خطراً وجودياً عليها.
وبعد أن ساهمت ظروف الحرب وخريطة التحالفات الخارجية والداخلية بتكريس بشير الجميل كزعيم شاب وطموح علّق عليه مسيحيو لبنان كثيراً من الآمال، تم اغتياله في 14/9/1982، مما ساهم مجدداً بزعزعة الاستقرار وزيادة التوترات بين المسيحيين والمسلمين، وأدى في نهاية المطاف الى تراجع كبير فيما سمّي «المارونية السياسية»، ومهّد لاتفاق «الطائف» الذي نتج عنه دستور «الجمهورية الثانية».
ومن غيرر المتصور أن يذكر اتفاق مدينة «الطائف» والدستور الذي يحمل اسمها دون أن يتبادر الى الأذهان دور الرئيس رفيق الحريري في التحضير لهما، ومن ثم في شغل الرئاسة الثالثة من خلالهما، منذ خريف عام 1992 الى أن تم اغتياله في 14/2/2005، ليسبب استشهاده خروجاً للجيش السوري من لبنان، ويفتح صفحة خطيرة وطويلة من الشلل السياسي نتيجة الانقسام الحاد بين فريقي (8) و(14) آذار، الأمر الذي أدى فيما بعد الى تكريس «الشيعية السياسية» على أنقاض «السنيّة السياسية» التي ارتبطت باسم الرئيس الشهيد.
وها هو اغتيال السيد حسن نصرالله أمين عام الحزب اللبناني الأكثر تأثيراً وإثارة للجدل في لبنان والمحيط، يجدّد الاستفهامات الكبرى حول مصير «الشيعية السياسية» في لبنان والمنطقة من ناحية، وحول مصير لبنان وفلسطين، وبالتالي العالم العربي على وقع جموح المجرم نتنياهو وطموحاته التوسعية، من ناحية أخرى!
من المغالاة الجزم بأن حزب الله قد انتهى دوره في لبنان باغتيال أمينه العام على الأقل سياسياً وشعبياً، ومن التسرّع القول بأن إيران- مهما راوغت أو صمتت- باعت أكثر أذرعها قوة ودرة تاج تأثيرها في المنطقة العربية، وبالمقابل فإن الواقعية السياسية تقتضي التأكيد على أن حزب الله ما قبل الاغتيال ليس كما بعده، وأن إعادة ترميم قواه بعد الضربات المؤثرة والمتتالية التي تلقاها ستأخذ وقتاً وتتطلب جهداً استثنائياً، مهما حاول الإعلام الموالي للحزب تسويق العكس ومهما كان الحضور العسكري على الأرض مستمراً في سياق المحافظة على المعنويات والدور المقاوم.
إن تخلّي إيران عن حزب الله ليس مستحيلاً وليس مستغرباً في لعبة المصالح الدولية، لكنه سيكون مقابل ثمن عظيم يتعدى طموحات الاتفاق النووي الى مكاسب وأدوار أكثر وضوحاً وتأثيراً في «الشرق الأوسط الجديد» التي تسعى أميركا وإسرائيل الى رسم معالمه بالضغطين العسكري والسياسي.
فهل أسفرت أم ستسفر المباحثات شبه العلنية بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية عن وجه جديد لإيران أكثر انفتاحاً وتقبلاً لعلاقات اقتصادية وسياسية مميزة مع الغرب؟ وهل سيكون التقارب السعودي-الإيراني مدخلاً لتهيئة الأرضية المناسبة لإعلان دولة فلسطين مقابل التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ وهل ستكون غزّة وجنوب لبنان نقطة انطلاق لإعادة رسم جغرافية المنطقة؟
أسئلة قد يصعب الرد عليها إلا من قبيل التحليل والتوقع، مع القناعة بحقيقة أن ليس كل ما يخطط في أروقة السياسة يسهل تحقيقه على أرض الواقع، في ظل وجود صراعات دينية وقومية متجذرة، ناهيك عن أن غطرسة نتنياهو المستندة الى حساسية الفترة الانتخابية في أميركا ستنتهي بعد أشهر قليلة، وللأسف فإن جميع الخيارات والتوجهات المتناقضة لن تكون سهلة على لبنان والشرق الأوسط وستدفع الشعوب أثماناً باهظة في ميدان الصراع على تحقيقها.
خلاصة القول إن فاعلية حزب الله إقليمياً مرتبطة بلا شك باستمرار وحجم الدعم الإيراني مادياً وعسكرياً ومعنوياً، وهذا رهن التطورات وربما المفاجآت، ولكن دوره السياسي وحضوره الشعبي على المستوى الداخلي لن يشهد تراجعاً ملحوظاً بالسرعة التي يتصورها أو يتمناها خصومه، وهذا بحد ذاته أمر مؤثر في هشاشة التركيبة الطائفية اللبنانية، وسيؤدي الى مزيد من التعقيدات الداخلية، إما باستخدام نشوة «الانتصار بالصمود»، وإما بتصفية الحسابات السياسية مع من يتهمه حزب الله بالتآمر عليه أو بتلاقي أهدافه مع أهداف العدو.
* كاتب ومستشار قانوني.