الاختصاص الجنائي العالمي ودوره في محاكمة مجرمي الحرب والإبادة

نشر في 07-10-2024
آخر تحديث 06-10-2024 | 19:04
 د. محمد أمين الميداني

يُحاكم اعتباراً من الأول من شهر أكتوبر من هذا العام، وأمام المحكمة الجنائية في باريس، أحد الأطباء الروانديين من قبيلة الهوتو على جرائم «الإبادة»، و«المشاركة في الإبادة»، و«الجرائم ضد الإنسانية» المتهم بارتكابها عام 1994، حين أشرف حسب الادعاء العام، على دفن جثث أفراد من قبيلة التوتسي، والإجهاز على المرضى بقصد طمس الوقائع في أثناء الحرب الأهلية التي جرت في رواندا في تسعينيات القرن الفائت، ولم يقف المجتمع الدولي وقتها مكتوف الأيدي فيما يتعلق بهذه الحرب، فقد أصدر مجلس الأمن قراره 955 في عام 1994 القاضي بتأسيس المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، وكانت محكمة جنائية مؤقتة انتهت أعمالها عام 2015 بعد أن حاكمت كل المتهمين عن هذه الجرائم.

وتُطرح تساؤلات: لماذا تتم الآن محاكمة هذا الطبيب؟ ولماذا في فرنسا؟ فالجرائم المشار إليها وقعت في بلد إفريقي رواندا، وأنشئت محكمة جنائية مؤقتة لمحاكمة المتهمين بهذه الجرائم، وانتهت مهامها منذ قرابة عشر سنوات، والجواب على هذه التساؤلات يكمن فيما يُعرف بمصطلح «الاختصاص الجنائي العالمي» الذي يسمح لأية دولة في العالم أن تلاحق وتحاكم فرداً ارتكب جرائم خطيرة حتى لو لم يكن من مواطنيها، أو أن هذه الجرائم وقعت على أراضيها، أو ذهب ضحيتها أحد من مواطنيها، وجاء الوقت لتمارس المحاكم الفرنسية هذا الاختصاص بسبب وجود هذا الطبيب على أراضي الجمهورية الفرنسية، ونتيجة شكوى قدمت من قبل مجموعة من المدعين من رواندا، ومنظمة تلاحق المسؤولين عن إبادة التوتسي والتي تسببت في مقتل قرابة مليون شخص.

ولابد أن نشير في هذا الخصوص إلى أن بلجيكا هي من أولى الدول التي اعتمد ما عُرف باسم «قانون الصلاحية العالمية» والذي يسمح للمحاكم البلجيكية بمحاكمة المتهمين بجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة بغض النظر عن مكان وقوع هذه الجرائم أو مرتكبيها أو ضحاياها، وسمح هذا القانون البلجيكي، والذي تم اعتماده في عام 1993، بمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم، وتم بالفعل تقديم أربعة مواطنين من رواندا للمحاكمة أمام المحاكم البلجيكية في عام 1994 واتهموا بالضلوع في جرائم الإبادة الجماعية، وصدرت بحقهم أحكاما بالسجن في عام 2001 تصل إلى 15 عاما. كما قُدمت، في عام 2001، دعوى أمام القضاء البلجيكي ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون بتهمة مشاركته بالمذبحة التي وقعت في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت في عام 1982، ولكن عُدلت فقرات هذا القانون البلجيكي لاحقا، ولم يعد للقضاء البلجيكي الصلاحية الواسعة التي كان يتمتع بها لمحاكمي المتهمين بهذه الجرائم.

ومن اللافت للنظر، ومن الضروري أن نشير إلى أنه، وبفضل هذه الصلاحية الجنائية العامية فإن المحاكم في كل من ألمانيا وفرنسا، نظرت في السنوات الماضية وتنظر حاليا في قضايا تتعلق بجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وأصدر عدد من هذه المحاكم أحكاما بحق المتهمين بهذه الجرائم التي وقعت خارج الأراضي الألمانية والفرنسية ولم يكن ضحاياها من الألمان أو الفرنسيين ولكن من سكان بلدان أخرى.

أردنا أن نذكّر بمفهوم «الاختصاص الجنائي العالمي» فيما يتعلق بقضية الطبيب الرواندي، لنؤكد على أهمية هذا الاختصاص ودوره وبخاصة في هذه الظروف الصعبة التي يعيشها «قطاع غزة» وسكانه، ولبنان وشعبه، وما ارتكبته وترتكبه إسرائيل من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، والجديد جرائم الاجتياح الإسرائيلي الأخير لجنوب لبنان وتهجير سكانه، فهذا الاختصاص يسمح بمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم أينما حلوا ووجدوا في بلدان العالم إذا كان لدى المسؤولين فيها الرغبة الأكيدة والنية الصادقة والإرادة الفعلية لمحاكمتهم بعيدا عن عبارات الشجب والاحتجاج والإدانة التي اعتدنا عليها، والتي لم تردع المسؤولين الإسرائيليين على اختلاف مناصبهم وطوال عقود كثيرة عن ارتكاب هذه الجرائم في حق عدد من البلدان العربية وسكانها.

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم في فرنسا.

back to top