يفترض في الحساب الختامي للدولة أن يعرض حقيقة ما صُرف فعلياً خلال السنة المالية الماضية بشكل واضح وتفصيلي وفقاً لاعتبارات عدة، من أهمها الشفافية لتعزيز الثقة في الممارسات المالية الحكومية، بيد أن الملاحظ على «عرض وزارة المالية المرئي» لبيانات الحساب الختامي غياب الدقة والوضوح من نواحٍ عدة، وهذا العرض، بالمناسبة، هو المستخدم إعلامياً لتبرير كثير من السياسات المخالفة للواقع، لذلك يهتم هذا المقال بتحليل أبواب الحساب الختامي لعام 2023 ــ 2024 وتحديداً الباب الأول بالمقارنة مع الأعوام السابقة، وبالمقارنة الجزئية مع بعض دول المنطقة لاستكشاف مواطن الخلل الحقيقية في الإنفاق الحكومي، بعيداً عن أي شكل من أشكال التحيز واللاموضوعية.

أما أهمية المقال فهي في أنه يساهم في رفع مستوى الوعي والمعرفة بالنهج الحكومي الحقيقي فيما يخص، تحديداً، سياسات وزارة المالية ومدى جودتها وكفاءتها، إضافة إلى مدى اتساقها مع الخطاب الرسمي للحكومة من حرص على «تحقيق العدالة والمساواة بين كل أفراد المجتمع».

Ad

في البداية، بلغت المصروفات الفعلية للسنة الماضية ما يفوق 25 مليار دينار بزيادة في الإنفاق بلغت 19 في المئة بالمقارنة مع مصروفات الدولة للعام المالي 2019 ــ 2020 بمعدل 4 في المئة سنوياً، إلا أن مصروفات الباب الأول لم تكن كما يروج البعض من حيث تأثيرها على المالية العامة، وأنها تستنزف معظم المصروفات الفعلية، وإن ارتفعت بنسبة 27 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث إن نسبتها إلى إجمالي الموازنة لم تزدد إلا 2 في المئة، فقد كانت مخصصات الباب الأول تمثل 36 في المئة من إجمالي الحساب الختامي في عام 2019 ــ 2020، و38 في المئة فقط في عام 2023 ــ 2024 خلافاً لما هو دارج من أنها تشكل 80 في المئة من الإنفاق الفعلي «بعد إقحام مفردة وما في حكمها تحت هذا الباب».

ومن الجدير بالذكر أن 42 في المئة من ميزانية السعودية لعام 2023 تخص بند الرواتب، بينما تمثل الرواتب ما نسبته 37 في المئة من موازنة الإمارات.

في المقابل، ارتفعت مخصصات الباب الثاني «السلع والخدمات» خلال السنوات الخمس الماضية بشكل مبالغ فيه جداً، والأعلى ارتفاعاً بالمقارنة مع بقية الأبواب، بحيث وصلت إلى 46 في المئة وبلغت نحو 4.6 مليارات دينار شكّلت تقريباً 20 في المئة من المصاريف الفعلية لباب يعد نافذة دعم رئيسية للقطاع الخاص يفترض أن تحسن أداءه، وهذا ما لم يحصل على أرض الواقع.

كما لوحظ أيضاً ارتفاع مخصصات المنح خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسبة 17 في المئة وهي «مخصصات تمثل ربع موازنة الدولة حيث تبلغ 6 مليارات دينار»، ويشمل هذا الباب تحويلات جارية أو رأسمالية غير إجبارية من وحدة حكومية إلى حكومات أجنبية أو منظمات دولية أو وحدات حكومية أخرى.

كذلك ارتفعت المصروفات الأخرى التي تمثل 6 في المئة من إجمالي المصروفات بنسبة 21 في المئة خلال السنوات الخمس، وهي أنواع أخرى من المصروفات لم يرد ذكرها في الأبواب السابقة، كإيجار أصول طبيعية ومصروفات أخرى متنوعة وخسائر فروقات تغير عملة.

علماً بأن مصروفات هذا الباب تفوق مصاريف أبواب المنافع الاجتماعية والإعانات وحتى الإنفاق الرأسمالي! أما الباب الأكثر انخفاضاً وتأثراً خلال السنوات الخمس فلقد كان الإنفاق الرأسمالي، حيث تراجع بنسبة 43 في المئة، وأصبح يمثل 5 في المئة فقط من المصروفات الفعلية لعام 2023 ــ 2024 بعدما كان يمثل 11 في المئة من مصروفات 2019 ــ 2020، وهذا نهج بلا شك يتعارض صراحة مع رؤية الدولة 2035 التي من المفترض أنها رؤية تنموية.

في الختام، يبدو جلياً من البيانات أعلاه، أن قراءة وتشخيص مسببات الهدر في موازنة الدولة ومدى كفاءة الإنفاق من وزارة المالية تحديداً لم تكن بالصورة المطلوبة، إذ كان ملحوظاً التحيز في تحميل أبواب معينة مسؤولية الهدر بخلاف الواقع من حيث نسبة الزيادة وحجم المستفيدين من مخصصات الباب. كذلك لاحظنا تخصيص مبالغ ضخمة بالمليارات لأبواب غير معلوم مردودها على المواطن والدولة.

كما كان واضحاً أن المصروفات الفعلية في مسار مختلف عن رؤية الدولة، لذلك وبناءً على جميع ما سبق، نرى أن أولويات وزارة المالية في معالجة مواطن الهدر يجب أن تركز على مخصصات أبواب السلع والخدمات والمنح والمصروفات الأخرى، ويجب أن يقترن الإنفاق برؤية الدولة بشكل فعلي. كذلك نوصي بالإسراع في معالجة إشكالية تباين رواتب القطاع الحكومي، وكذلك المضي قدماً في مقترح دمج كثير من الهيئات، بل وإلغاء غير المفيد منها لإيقاف الهدر الحقيقي، وكل أشكال التمييز على حساب المالية العامة وقيم العدالة والمساواة.

* أستاذ التمويل ومحاضر سابق في جامعة بورتسموث – المملكة المتحدة