أرثي أمي أم أرثي أمتي؟!
بين ألم شخصي بفقدان الأم وكرب أعظم يعصف بالأمة، يسقط القلب خائراً، ويتوه العقل حائراً، ويصرخ الوجدان متألماً: أيهما أولى وأوقع؟ هل أرثي أمي التي رحلت بسكينة في أيام عاصفة؟ أم أرثي أمتي التي ترزح تحت وطأة الحروب والانقسامات والتهديد الوجودي، وتعيش حلقة إضافية من مسلسل الهوان؟
لطالما شعرت أن أمّي أمّة، ولطالما اقتنعت بأن الأمة أمّي، فكيف لي وأنا بين فقدٍ شخصيّ، وقلق جماعي، ألا أرثي حالاً لا يخفِّف من وطأة هوله إلا الإيمان والاتكال، ذلك لأن الآجال بيده عزّ وجلّ وصلاح الحال مرهون بقدرة إعجازه.
الأم وطن تتجلى فيه كل معاني الانتماء والعدل بين الأبناء، هو طمأنينة الرعاية دون مقابل، ومعاني الرحمة والتكافل، والأمة أم تحضن أبناءها وتعلّمهم أنهم في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى.
كانت أمي ملاذي في كل الأوقات والملجأ من كل العسرات: بدعواتها، بصمتها، برضاها المتلألئ في بريق عينيها الخضراوين... كانت أمي البركة المتجسدة بصورة بشري، والإيمان الناطق بلسان العفّة والحكمة، ولمسة الحنان التي لا يضاهيها بلسم في الحياة... كانت أمي الأميّة هي النجيبة الذكيّة، المعلّمة بفطنة والموجهة بخبرة... كانت أمي العطاء والوفاء، وكانت كل جمال الأشياء من أَلِف الحبِّ الى الياء.
رحلت أمي، وتركت فراغاً لا يملؤه وجود أمة مشتتة، تعصف بها الويلات من كل جانب، وتتأرجح بوصلتها في كل اتجاه، وتدّاعى عليها الأمم كما تدّاعى الأكلة إلى قصعتها! أبناؤها كثر لكنهم كغثاء السيل، نزع الله من صدور أعدائهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن وحب الدنيا بما فيها من زينة وكراهية للموت المرتبط بالكرامة والانتصار.
كل ما حولنا صار محيطاً من ألم، وأمواجاً من حزن، وأنواء من حسرة، وقد وصلت بنا الحال أن نقع بين سندان الحزن الشخصي على من نفقدهم فرادى، ومطرقة الألم على من نفقدهم جماعة!؟ فكيف لي أن أبث لوعتي في رثاء أمي، وحمرة الدمع تسيل دماء على طرقات لبنان وغزة؟! كيف لي أن أتحسر على غيابها في حين أمتي غارقة في هزائمها المتكررة وتشهد فصولاً من انهيار لا يتوقف؟! كيف لي أن أفتقد حس أمي وأمتي غارقة في السبات؟! كيف لي أن أتألم على فقد عزيزة وكل الأشقاء في ليبيا والسودان وسورية والعراق واليمن يتضورون جوعاً ويتطاعنون خيانة؟!
فَقَدْت أمي، وأمتي تتساقط أوراق ربيعها في خريف الشتات، هامتها منكّسة من وهن وضعف، جسدها ملطّخ بدماء من غدر، وجهها شاحب من الخيبة وملامحها مجرحة بالقلق... صوت حضورها خافت، ووقع خطواتها باهت... ترفض الاستسلام لمصير يناقض تاريخ أمجادها، وتشكو أبناءً يساهمون في جرّها على دروب الجلجلة، وإني أخجل من البكاء والتباكي!
البكاء على أمي لن يعيدها الى الحياة، والتباكي على أمتي لن يرأف بحالها، فماذا بقي لنا غير الأحزان؟ أنقف عند حدود الرثاء أم نبحث عن بصيص الرجاء؟ فعندما يكون اليأس هو سيد الموقف والوهن هو الحاكم بأمره، نحتاج إلى استشعار معاني الأمومة، لنستعيد من أمهاتنا دروس الصبر والتضحية، ولنستطيع أن ننهض من جديد بالأمة.
***
عندما تضيق السبل وتشتدّ الآلام وتتلاطم المآسي في يّم الأحداث، قد يبدو الفناء هو المصير المحتوم لولا نور خافت يلوح في الأفق لمن يؤمن بأن التجديد يبدأ من الروح والتغيير يبدأ من الذات، وفي الزمن الذي تتجسد فيه الهزيمة بالجلوس على مقاعد التباكي، ويتلطى فيه الضياع خلف عبارات الرثاء، يصبح الأمل والعمل فعلا مقاومة.
فما من أم في عليائها إلا وتحزن على أبنائها الخائبين، وما من أمة في ضعفها إلا وتتّكل على أبنائها الفاعلين، فلنع جيداً ما نحن فيه، ولنتحاش ما ينتظر كل واحد منّا، وكل شعب من شعوبنا، وكل دولة من دولنا.
لكلّ أمة لحظات تصفو فيها إلى ذاتها، وتصحو على حقيقة أن الحل لإخفاقاتها لا يستورد من الخارج بل ينبع من أعماقها، وها نحن، في لحظة مفصلية، بأمسّ الحاجة إلى العودة إلى الجذور، إلى المبادئ التي صاغتها تلك الأيدي التي بنت حضارتنا، عازمين على صياغة المستقبل بربط جسور التواصل وعلى أسس من التكافل بعيداً عن أطماع الذات وضغائن الانقسامات.
ولنتعلم- من أجل الأمة- كيف علمتنا أمهاتنا أن نعيش بقلب واحد، تذوب بيننا الخلافات بفعل الشعور الحقيقي بوحدة الحال، ولنستذكر أن الإخوة مهما اختلفت طبائعهم وتناقضت أفكارهم يجمعهم حضن أم دافئ يضمّ ويلمّ.
يتحقق التغيير عندما نكف عن إلقاء اللوم على الآخرين في كل ما وصلت اليه أنفسنا، بيوتنا، مدارسنا، مؤسساتنا، وكل تفاصيل حياتنا اليومية، وعندما نؤمن بأن كل خطوة صغيرة نحو البناء تعني خطوة كبيرة نحو المستقبل، ويستعاد مجد الأمة عندما نقتنع أنها ليست كياناً بعيداً نراقب حاله من خلف الزجاج بحسرة أو لا مبالاة، بل هي نحن: أفراداً وجماعات.
* كاتب ومستشار قانوني.