راجت خلال الأشهر الماضية مجموعة من الأفكار والمقترحات، حسنة النية لكنها خطرة التطبيق، إذ تستهدف تحقيق منافع اقتصادية أو مالية من خلال طرح عناوين عريضة دون خوض بالتفاصيل أو عبر استنساخ تجارب اتخذتها بعض الدول، مما يجعلها، إذا اتخذ قرار بتطبيقها، أفكاراً أو مقترحات «مسمومة» ذات آثار سلبية جداً على المالية العامة والاقتصاد والمجتمع.

وغالباً ما تكون الأفكار المسمومة نتيجة إخفاق اقتصادي متراكم أو سياسات فوضوية تتخذ من الصدمة للأسواق وسوق العمل وشبكة الأمان الاجتماعي هدفاً لها في سبيل سرعة تخفيف درجة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وإن كانت البدائل الأخرى غير جاهزة أو مؤهلة، وهو ما تسرب أحياناً من خطط حكومية أو أعلن رسمياً من خلال تصريحات وزارية كلها تستهدف خفض النفقات المالية المباشرة حتى إن كان لها تداعيات اقتصادية أو اجتماعية سلبية.

Ad

ثابت ومتحرك

فأفكارٌ كفرض زيادة على أسعار البنزين مع تعويض المواطنين نقداً، تمهيداً لإلغاء منظومة الدعوم واستبدالها بالتعويض النقدي، هي أفكار مسمومة ذات آثار سلبية عميقة، لا يتوقف أثرها المباشر على ما يمكن أن يحدث من اختلال في السوق المحلي عندما يرفع العاملون بالمهن أي أصحاب الدخل المتحرك، ومعظمهم وافدون، من قيمة خدماتهم لتعويض زيادة سعر البنزين من الموظفين أي أصحاب الدخل الثابت، ومعظمهم مواطنون، فإذا امتدت سياسات التعويض النقدي لتشمل أيضاً مكونات أخرى في منظومتي الدعوم كالكهرباء والماء والتموين، فإن ما ستتركه من تداعيات سلبية على أسعار المستهلكين في سوق كالكويت يعاني من التضخم المتصاعد المرتبط بعوامل السياسات الاحتكارية المحلية ومصاعب الاستيراد الخارجي، ستكون كبيرة عندما نزيد عليها ضخاً إضافياً للسيولة بشكل يدعم المزيد من الغلاء والتضخم على المواطنين والوافدين على حد سواء.

مسؤولية الدولة

كذلك تدور في فلك النصائح الموجه لمتخذي القرار نصيحة أخرى لا تقل «سمية» عن استبدال الدعوم بالنقد وهو ما يعرف بـ «الراتب المجاني» الذي يمنح مكافأة اختيارية مقطوعة خالية من أي إضافات مالية كـ «الكوادر والبدلات» لكل كويتي لا يعمل في القطاعين العام أو الخاص مدى الحياة، وهدف هذا المقترح خفض تكاليف باب الرواتب والأجور في ميزانية الدولة دون اعتبار للآثار الاجتماعية والأمنية والاستهلاكية السيئة المتوقعة من تقنين البطالة السافرة في المجتمع الكويتي، ناهيك عن أثر هذا المقترح في إخلاء طرف الدولة من مسؤولية أساسية هي خلق فرص العمل في القطاع الخاص وتحفيز بيئة الاستثمار في المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

بل إن مقترح «الراتب المجاني» قد لا يحقق مبتغاه الأصلي وهو خفض النفقات العامة من خلال الباب الأول من الميزانية، عندما يتحول المستفيدون منه إلى فئة اجتماعية كبيرة تطالب بما يعرف بـ «تحسين المعيشة» من خلال زيادة المنافع المالية.

حكومة وصندوق

ولا تقتصر الحلول المسمومة على تسريبات لخطط أو مقترحات رسمية كانت أم استشارية، إنما أيضاً في التعامل الحكومي الرسمي مع صندوق النقد الدولي الذي اجتمع مع فريق منه خلال أسبوع وزيران في الحكومية الكويتية هما «المالية» و«الشؤون»، إذ التقت وزيرة المالية نورة الفصام المديرة العامة للصندوق كريستالينا جورجيفا لمناقشة «كيفية الاستفادة من خبراته بما يسهم في معالجة التحديات المالية وإجراء الإصلاحات الاقتصادية في البلاد» فيما تركزت مباحثات زميلتها وزيرة الشؤون أمثال الحويلة على «تنويع مصادر الاقتصاد، إلى جانب تطوير وتحسين بيئة الأعمال للحفاظ على ثروة الوطن وضمان استدامتها للأجيال القادمة».

ومع أن ما أعلن عن مباحثات الوزيرتين كان في سياق بيان إعلامي رسمي قد راعى كل الصياغات البروتوكولية، فإنه عند مراجعة تقارير بعثات صندوق النقد عن الكويت خلال آخر عامين نجد أن توصياته عن الاقتصاد الكويتي تتسق مع معظم توصياته أو «الروشتات» التي تحمل المجتمعات مسؤولية إخفاق الإدارة الحكومية، التي تستهدف في العادة الفئات الأدنى دخلاً والأقل تأثيراً في السياسات العامة، علاوة على اقتطاع التوصيات عن آثارها الاجتماعية وحتى الاقتصادية عندما تستهدف تحقيق وفر مالي معين.

نصائح منقوصة

فبعثات صندوق النقد «نصحت» الكويت، بعدد من النصائح المنقوصة، مثل ترشيد فاتورة الرواتب والأجور في القطاع العام دون تحفيز لخلق الوظائف في القطاع الخاص وبخفض جوهري للدعوم، خصوصاً الطاقة، بلا تحديد للشرائح المستهدف من الخفض وفرض الضريبة «المضافة والانتقائية» من غير إحداث إصلاحات في معالجة الهدر المالي إلى جانب التشجيع على الإنفاق على البنية التحتية وإرساء المناقصات بلا تقييم للعوائد الاقتصادية كخلق فرص العمل أو تحسين جودة الخدمات، ناهيك عن مطالبته بالتعجيل بتمرير قانون الدين العام باعتباره أمراً بالغ الأهمية دون حتى مجرد الإشارة إلى ضرورة وضع حد لتصاعد انفلات مصروفات الميزانية في الإنفاق الجاري، الذي لا يستهدف عوائد مستدامة للاقتصاد أو المالية العامة تقي البلاد من شر الوقوع في شرك الاستدانة، فهذه المقترحات ضررها وسميتها عاليان وخطيران، لأنه لا تواكبهما إصلاحات جذرية في بنية الاقتصاد الكويتي أو سوق العمل أو جودة الخدمات أو ضبط الهدر والمصروفات.

المفهوم الصحيح

من المهم جداً أن يعي راسمو السياسات التنفيذية أن مفهوم الإصلاح الاقتصادي والمالي أشمل من اتخاذ قرارات تتصف بـ «الصدمة» أو استهداف تحقيق وفورات مالية محدودة لا تؤدي لنتائج اقتصادية أعمق في سوق العمل والتركيبة السكانية وتنمية حجم ومكونات الناتج المحلي، فضلاً عن خلق بيئة أعمال واستثمار مواتية لتنويع الإيرادات، وهو ما يجعلنا نتذكر مجدداً أن الكويت منذ تدخل شهرها الخامس بلا برنامج عمل حكومي يحدد أبسط أبجديات خطوات الإصلاح المفترضة، مما يتيح المجال لتداول الأفكار المسمومة بكل ما فيها من أضرار وعشوائية.