هناك تساؤلات كثيرة تدور حول مستقبل فرص العمل في القطاع الحكومي بالكويت، والكيفية التي ستتبلور فيها سياسات التوظيف والأجور، في ظل التزايد المطرد في القادمين إلى سوق العمل ومحدودية الإيرادات الحكومية. هل سيكون التركيز على خفض القيمة الحقيقية للأجور مع استمرار احتواء القادمين الجدد إلى سوق العمل، أم سيتجه التركيز إلى ترشيق أعداد العاملين في الحكومة، من خلال تشجيع التقاعد المبكر والخصخصة واستحداث ضوابط أكثر صرامة لقبول المنتسبين الجدد؟ هل ستستمر سياسات الأجور والترقيات مرتبطة بشكل أساسي بمعايير الأقدمية والمؤهلات أم سيتم التحول بشكل أكبر إلى معايير الأداء الوظيفي والإنجاز وطبيعة المهام؟ هل ستحتفظ الأجور على مستويات تضاغطها الحالية أم ستزداد الفوارق في هذه المعدلات من أجل استقطاب الكفاءات النادرة والحد من إقبال العمالة غير المطلوبة؟ وأخيرا هل سيتحول الجهاز الإداري في الكويت بعد سنوات من الترهل والتسيب وغياب الإنجاز إلى جهاز فعال وقادر على أداء دوره وواجباته ومن دون الحاجة إلى الاستعانة بمساهمات الوافدين؟
يمكن القول بشكل عام إن هناك قطبين متعارضين في سياسات التوظيف الحكومي يمكن تسميتهما بالنمط اليساري والنمط الليبرالي. الأول والذي يسود في النظم الاشتراكية، يركز على توزيع الدخل وتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليص فجوة الدخل. ورغم شرعية الأهداف فإن هذه الأنظمة تعاني من التضخم الوظيفي وضعف الإنتاجية وتفشي البيروقراطية والمركزية في قرارات التوظيف والأجور. أما النمط الليبرالي فيهدف إلى محاكاة القطاع الخاص في سياسات التوظيف والأجور، حيث يركز على مبدأ الكفاءة بدلاً من التوزيع، كما يمتاز بالمرونة في مواجهة تقلبات الأسواق فيتم التوظيف (والتسريح أيضاً) طبقاً لاحتياجات العمل، وترتبط الأجور بنوعية الخبرات المطلوبة ومدى توافرها ومدى القدرة على الإنجاز بدلا من المؤهل وسنوات الخدمة... ويعارض منظرو هذا التوجه استخدام التوظيف كأداة لتوزيع الدخل وتحقيق العدالة الاجتماعية، داعين بدلاً من ذلك إلى توفير وتحسين الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم وإنشاء أنظمة الضمان الاجتماعي للطبقات الأقل دخلاً والعمل على إزالة الفوارق الاجتماعية والعوائق المؤسسية التي تمكن الأفراد وتحقيق المساواة والعدالة في الفرص.
وبشكل عام فإن نظام الخدمة المدنية بالكويت أقرب في سياساته إلى النظام الاشتراكي (رغم تبني الدولة فلسفة الاقتصاد الحر في المناحي الأخرى)، وحتى وقت قريب كان التوظيف متاحا للجميع مما ولد القناعة لدى الكثير بأن الوظيفة الحكومية حق مكتسب. وينبغي التذكير هنا أن النظام الحالي جاء كمحصلة لظروف تاريخية، حيث تزامنت نشأة الدولة في الكويت مع رواج الفكر الاشتراكي عالمياً وفي فترة كانت فيها مصر تحتل الريادة في التشريع والفكر الدستوري والخبرات الإدارية... كما تواكب هذا التوجه مع الطفرة المالية التي خلقت قفزات في حجم مؤسسات الدولة واحتياجات كبيرة للقوى العاملة لملء هذه الشواغر من جهة، ورغبة الدولة أيضا في استخدام الوظائف العامة كإحدى الأدوات لتوزيع الثروة النفطية بجانب التثمين والمناقصات والقسائم الصناعية من جهة أخرى.
وقد تمخضت سياسات التوظيف وأنظمة الخدمة المدنية في الكويت على مدار 60 عاماً الماضية عن اختلالات فريدة يمكن إيجازها فيما يلي:
التركيز الحاد للقوى العاملة الوطنية في الحكومة مقارنة بالقطاع الخاص الذي تسوده العمالة الوافدة، حيث تشير التقديرات إلى أن نسبة تزيد على 75% مقارنة بالمعدل العالمي الذي يتراوح بين 15 و20%.
تضخم أعداد الكويتيين العاملين في الإدارة الحكومية بما يفوق بكثير الاحتياجات الفعلية وتركزها في قطاعات الإدارة العامة والخدمات الاجتماعية والأمن وغيابها في بعض القطاعات الأخرى ذات الطابع الفني، مثل التمريض والتدريس والمهن المساندة.
ضعف المخرجات والمهارات الفنية للعاملين الكويتيين في القطاع الحكومي، بالرغم من ارتفاع معدلات التحصيل الدراسي والشهادات الجامعية، مما ترتب عليه الاستعانة بالوافدين لإنجاز المهام الفنية.
وجود العديد من القيود القانونية والإدارية التي تحد من قدرة الحكومة على إعادة توزيع القوى العاملة الوطنية حسب المستجدات.
ارتفاع مستويات أجور الكويتيين في الحكومة بالنسبة للمهارات الدنيا والمتوسطة مقارنة بنظيرتها في القطاع الخاص الذي لا يواجه صعوبة تذكر في استيراد العمالة الوافدة الرخيصة تحت نظام الكفيل.
تمتع العاملين في القطاع الحكومي بميزات عينية لا تتوفر في القطاع الخاص، مثل ساعات عمل أقل وفرص البعثات والتدريب، سخاء الإجازات الدورية، والأمن الوظيفي.
يمكن القول إن الجهاز الإداري في الكويت أصبح مترهلا وذا كلفة عالية، حيث تمثل رواتب وأجور موظفي القطاع العام حوالي 70% من الميزانية. وقد انعكس ذلك على شح الموارد المتاحة للاستثمار في البنية التحتية، والتضخم في حجم العمالة الوافدة.
وبالنظر إلى الاختلالات التي ذكرت أعلاه فإن هناك حاجة ماسة لوضع برنامج لإعادة توزيع القوة العاملة ضمن محورين، الأول يهدف إلى ترشيق الجهاز الحكومي، من خلال تحديث أنظمة الخدمة المدنية فيما يتعلق بالتعاقد والتعيين والأجور والترقيات وتنفيذ برنامج الخصخصة، والثاني يتعلق بدعم دور القطاع الخاص في استيعاب قوة العمل الوطنية من خلال الاستثمار في تطوير البنية الأساسية وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتحسين شبكات الأمان الاجتماعي ونظم الدعم للبطالة الانتقالية وإعادة صياغة سياسات توظيف العمالة الوافدة، كما ينبغي التذكير بأن تطبيق مثل هذه البرامج الشاملة بنجاح يتطلب موارد مالية إضافية غير اعتيادية خلال الفترة الانتقالية، والتي ستكون أكثر كلفة كلما تأخر برنامج الإصلاح.