«إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُّ»، هي نصيحة من محمد سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، وقول في صِفة الدنيا والحثِّ على قلة الأخذ منها، وفيها حكمة لبني البشر، بألا تلهيهم مباهج وخيرات الدنيا فيتمادوا، فيغرفوا منها بلا تروٍّ ولا تبصُّر، وينسوا أنفسهم بأن عليهم أن يقتصدوا، وأن ينظروا إلى المستقبل، وأن يتفكروا فيه، فلا أحد غير الله يعلم ما خُبِّئ لهم.

المفردات صعبة، وتوضيحها أصعب، لكن لا بأس من محاولة تفسير بعض مما صعب علينا، فـ «الْحَبَطُ» هنا هو‏:‏ انتفاخُ البطن، بسبب ما تفرط به الإبل من أكل «الذُّرَقَ» وهو نوع من العشب، فتنتفخ بطونها إذا أكثرت منه، فأكلها بشراهة «يُلِمُّ» بها إلى القتل، أي يُقربها من الهلاك.

Ad

جاءت هذه النصيحة الشريفة في سياق حديث قال فيه عليه الصلاة والسلام: ‏إني أخَافُ عليكم من بعدي ما يُفْتَح عليكم من زَهْرة الدنيا وزينتها‏، ‏ فقال رجل‏:‏ أوَ يأتِي الخيرُ بالشرِّ يا رسول اللّه‏؟‏ فقال: ‏إنَّهُ لا يأتي الخيرُ بالشر، «وإن مما يُنْبِتُ الربيعُ ما يقتل حَبَطاً أو يلم»، إلا «آكلة الْخَضِرِ» فإنها أكلَتْ حتى إذا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، «فَثَلطَتْ» وبالت، أي أنها بعد أن شبعت بَرَكَتْ مستقبلة الشمس تستمرئ بذلك ما أكَلَتْ، وتجترُّ و«تَثْلِط»، وقد زال عنها «الْحَبَط» بعد أن تخلصت من فضلاتها، وإنما «تَحْبَطُ» الماشية لأنها أتخمت نفسها بالأكل، دلالة على النهي عن الإفراط‏ المؤدي إلى التخمة في كل شيء، وعدم التخلص مما زاد عن الحد.‏‏

فالحديث فيه نصيحتان، الأولى ذم فيها المفرط بقوله: «إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُّ»، وهي نصيحة للمُفْرِطِ في جمع الدنيا، وفي منعها من حقها، وامتدح في الثانية المقتصد بقوله: «‏إلا آكلة الْخَضِر‏» مشبهاً إياه بها.

وهكذا هي الأمم التي لم تأخذ بهذه النصيحة الإلهية، فقد حل عليها قول الحق، واندثرت بعد أن أصابها «الْحَبَطُ»، وبادت أمم بعد أن سادت، لفشلها في ضبط موازناتها، فهدرت ما توافر لها من نِعم وخيرات على التبذير والعطايا من دون حساب لما يخبئه لها الزمن، وتصرَّفت في خيراتها كتصرف تلك الإبل التي أفرطت في أكلها حتى أودى بها.