أين تقف البنوك المركزية في مواجهة التضخم؟
بينما يتقرب العام الحالي من نهايته لا ينفك التضخم يلقي بظلاله على مشهد الأسواق حول العالم، في وقت تواصل فيه البنوك المركزية الكبرى تشديد قبضة سياستها النقدية، أملا في السيطرة عليه، وخوفاً من دخول العالم في دائرة من الركود بدأت بعض ملامحه في الظهور بالفعل.
وتظهر نتائج مسح أجرته «أرقام» للسياسات النقدية لأكبر 32 بنكا مركزيا حول العالم، عدم تحقيق أي من تلك البنوك مستهدفها للتضخم في 2022، وفي مقدمتها الفدرالي الأميركي الذي رفع أسعار الفائدة عدة مرات خلال العام الحالي في مسعى محاولاته لاحتواء التضخم.
ويقول محللون ل«أرقام»، إن السياسات النقدية للبنوك المركزية، والتي اتسمت بالتشديد خلال العام الجاري، ربما كانت تبعاتها السلبية على بيئة الأعمال أكبر من قدرتها على السيطرة على التضخم مع حقيقة مفادها أن كبريات البنوك المركزية العالمية فشلت في تحقيق المستهدف، وإن كان التضخم قد بدأ في التراجع رويدا رويدا.
تشديد السياسات
ومنذ مطلع العام الحالي، رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة على نحو مطرد، إذ تشير نتائج تحليل أجرته «أرقام» للبيانات المركزية ل45 بنكا مركزيا حول العالم، إلى رفع أسعار الفائدة في غالبية اجتماعات العام، وبالتحديد منذ بدء الربع الثاني من العام حينما بدأ غول التضخم في الخروج عن السيطرة.
ويقول بن ماي، محلل الاقتصاد الكلي لدى «أوكسفورد» ل«أرقام»، إن سياسات بعض البنوك المركزية الكبرى لم تتسم بالزخم الصعودي لمعدلات التضخم، وأن المخاطر المرتبطة بالتضخم كانت أكثر تهديدا في بعض بلدان الأسواق الناشئة والتي كانت عرضة للتقلبات الشديدة.
ويتابع ماي: إذا ما نظرنا إلى قرارات السياسة النقدية ومستهدفات البنوك المركزية للتضخم فسنعرف على الفور أن تلك السياسات لم تكن بالنجاعة الكافية لدرء مخاطر التضخم.
وتظهر نتائج مسح «أرقام» أن التضخم السنوي في أكبر 7 بنوك مركزية بالعالم كانت فوق المستهدفات التي حددتها تلك البنوك حول مستوى 2 في المئة.
وعادة ما تستهدف البنوك المركزية الكبرى حول العالم على غرار الفدرالي والبنك المركزي الأوروبي معدلات تضخم حول مستويات 2 في المئة لتحفيز النمو وتفادي الانزلاق نحو الركود.
وعادة ما تستهدف البنوك المركزية الكبرى حول العالم، على غرار الفدرالي والبنك المركزي الأوروبي، معدلات تضخم حول مستويات 2 في المئة لتحفيز النمو وتفادي الانزلاق نحو الركود.
ورفعت البنوك المركزية الكبرى عدا الفدرالي أسعار الفائدة في 8 اجتماعات بالمتوسط خلال 2022 في أكبر رفع سنوي لمعدلات الفائدة منذ سبعينيات القرن الماضي، بحسب بيانات ريفنتيف.
بينما رفع الفدرالي الأميركي أسعار الفائدة 6 مرات خلال اجتماعات العام الحالي من أصل 8 اجتماعات مقررة لم ينقصها سوى اجتماع ديسمبر الجاري، والذي تشير فيه التوقعات أيضا إلى رفع أسعار الفائدة ولكن بوتيرة أقل ليصبح البنك أيضا على المسار نحو أكبر رفع سنوي لأسعار الفائدة منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
ورفع البنك المركزي الأسترالي خلال العام الجاري أسعار الفائدة للمرة الأولى في تاريخه منذ 11 عاما مع ابتعاد التضخم عن مستهدفات البنك حول 2.5 في المئة، إذ سجلت آخر قراءة لمؤشر التضخم 6 في المئة، وهي أعلى مستوى في عقود.
الأسواق الناشئة تئن
وفي تلك الأثناء، عانت الأسواق الناشئة بشدة من ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وهو الأمر الذي حاولت معه البنوك المركزية التحرك لاحتواء الارتفاع الشديد للأسعار ودفاعا عن عملاتهم المحلية والتي أنهكها الدولار القوي.
وتظهر نتائج المسح الذي أجرته «أرقام» ل16 بنكا مركزيا بالأسواق الناشئة عدم تحقيق البنوك لأي من مستهدفات سياستها النقدية للتضخم على الإطلاق في وقت تسببت فيه قوة الدولار في تراجع القوة الشرائية لعملات لتلك البلدان، ما أسفر عنه تضخم للأسعار في خانة العشرات لعدد 9 دول من أصل عدد البلدان التي شملها المسح.
ففي الأرجنتين على سبيل المثال بلغ معدل التضخم 88 في المئة في حين يستهدف البنك المركزي معدلات للتضخم حول 5 في المئة في أكبر فجوة بين المستهدف والفعلي في الأسواق الناشئة.
ويقول فيكتور لوب محلل الاقتصاد الكلي لدى «ستاندرد تشارترد» ل«أرقام»، إن السياسات النقدية للبنوك المركزية في الأسواق الناشئة كانت عواقبها أيضا أكثر من فوائدها في كثير من الأحيان، إذ تسبب الرفع المتتالي لأسعار الفائدة في ارتفاع غير مسبوق في تكلفة الاستدانة، في وقت ظل فيه التضخم بعيدا أيضا عن السيطرة.
ويضيف: «ما لاحظناه بالأسواق الناشئة أو النامية حتى هو انفلات غير مسبوق في تكلفة الاستدانة، إضافة إلى ذلك فإن التضخم ظل أيضا بعيدا عن المستهدفات».
ويشير تقرير حديث عن البنك الدولي إلى أن مدفوعات خدمة الدين في البلدان المنخفضة ومتوسطة الدخل ستصل إلى نحو 62 مليار دولار في عام 2022، ما يجعل تلك الدول تنفق حالياً أكثر من عُشر عائدات صادراتها لخدمة الديون وهي أعلى نسبة يتم تسجيلها منذ عام 2000.
ويتابع لوب: «تسبب تآكل القوة الشرائية لعملات الأسواق الناشئة قفزة غير مسبوقة في معدلات التضخم مع موجة نزوح لرؤوس الأموال الأجنبية والبحث عن الملاذات الآمنة».