ما قل ودل: أكتوبر ونصر 1973 والأقصى وفلسطين خط الدفاع الأول العربي (2-2)
نصر طوفان الأقصى
إن النصر الذي حققه طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي كان من روح السادس من أكتوبر في عام 73، فلا تطمسوا أياً من النصرين، والقاسم المشترك بينهما هو التضحيات التي قدمها الجنود المصريون وتلك التي قدمها شباب حماس المناضلون الأقوياء، وأن عبور هذا الشباب لغلاف غزة الحصين بإمكاناتهم البسيطة المتواضعة لا يقل بسالة وشجاعة وجسارة عن شجاعة وبسالة الجنود المصريين، وإن اختلفا في الطبيعة والتخطيط والإعداد والتدريب وقد خرجوا من الخنادق تحت الأرض، حيث كان يتم تدريبهم والتخطيط لهذه العملية، ليبهروا العالم والوطنيين الشرفاء في العالم بصمود الشعب الفلسطيني المحتلة أراضيه منذ خمسة وسبعين عاماً، وليطرحوا على العالم القضية الفلسطينية من خلال هذا الطوفان وحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة منذ احتلالهما بعد قرار التقسيم 1947، وبعد النكسة 1967م.
ولم يكن وراء أبطال طوفان الأقصى سوى منظمة التحرير الفلسطينية التي تنتظر الفتات من دولة إسرائيل، التي تمارس سيادة كاملة على الضفة الغربية، بتنسيق أمني مفضوح مع هذه المنظمة أما أبطال أكتوبر 1973 فقد كان وراءهم دولة، هي أقدم دولة مركزية في التاريخ، ذات عمق كبير في أراضيها الواسعة، وقد كان التدريب على هدم الساتر الترابي (خط بارليف) يتم في أسوان، على بعد ألف كيلومتر من قيادة الجيش في القاهرة، وكانت مصر تملك ثلاثة جيوش، على النقص من الأنفاق تحت غزة، التي خرج منها أبطال طوفان الأقصى.
تاريخ عسكري عميق
ولمصر عمق كبير في تاريخها العسكري، وفي حبها للسلام في آن واحد منذ أحمس قبل آلاف السنين، وأوزوريس الذي سعى إلى السلام وهو في أوجه نصره، وكما في القول المأثور، «إذا أردت السلام فتهيأ للحرب»، وكان على رأس الدولة في نصر أكتوبر الرئيس الراحل محمد أنور السادات ثعلب الحرب والسلام، كما وصفه الإسرائيليون، وقد اعترف إيلي زعيرا رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلية، وقتئذٍ أنه واجه أكبر عملية تضليل في تاريخ الحروب الحديثة نفذها الجيش المصري بإتقان مذهل ودهاء شديد.
وقد استطاع السادات بروح نصر أكتوبر أن يعيد سيناء إلى مصر في ظروف عسكرية في غاية التعقيد، واستطاع السادات بنبوغه السياسي، التحرك إقليمياً ودولياً وعالمياً، وكان الملك فيصل، عاهل المملكة العربية السعودية، شريكاً وفياً مخلصاً لمصر في هذه الحرب، حيث قاد سلاح النفط ببراعة أذهلت العالم كله، أجبرت رئيس وزراء هولندا وقتئذ على ركوب دراجة ليصل إلى اجتماع مجلس الوزراء وليكون قدوة لشعبه، واغتيل البطلان السادات وفيصل.
وقد تكشف الأيام والتاريخ عن ضلوع الإمبريالية العالمية في هذا الاغتيال فقد كان كلاهما خطراً على هذه الإمبريالية، وتاريخ إسرائيل منذ نشوئها ومن قبل ذلك مليء بالاغتيالات، منذ أن اغتالت برنادوت الوسيط الدولي 1948، وقبل ذلك في 22 يوليو سنة 1946، حين قامت عصابة الأرغون الصهيونية بتفجير فندق الملك داود بمدينة القدس، والذي كان مقراً لحكومة الانتداب البريطانية وحصد هذا التفجير 91 شهيداً وأصيب 46 آخرون.
ولا مطلب لطوفان الأقصى إلا وقف الحرب، وهدنة يتم من خلالها الوصول إلى سلام دائم، قائم على حل الدولتين، ولا غرو أن يمد السادات يديه بالسلام، وجيشه رابض على الأرض المصرية في سيناء، بعد النصر، وقد رأى العالم كله الجسر الجوي الأميركي العسكري قد بدأ حرباً معلنة من أميركا بترسانتها العسكرية على مصر، وما كانت إسرائيل في كل حروبها إلا قناعا لهذه الترسانة أو قفازا لها، فهي الدوبلير للبطل الطامع في ثروات الوطن العربي، وآسيا وإفريقيا، وإسرائيل الطريق إليهما.
وبعد نصر أكتوبر وقعت مصر على اتفاقية السلام مع إسرائيل في كامب ديفيد، حيث أعلن الرئيس الراحل أنور السادات أنه لا يستطيع أن يحارب أميركا، رداً على مقالة إن حرب 1973 كانت حرب تحريك لا تحرير، وجاء الآن طوفان الأقصى بركاناً عظيماً حرك القضية الفلسطينية وألزم 143 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بفلسطين دولة عضوا كامل العضوية بالأمم المتحدة، مقابل رفض 10 دول، منها أميركا وبريطانيا وفرنسا، وبعض دول الكومنولث البريطاني، فنحن في نظام عالمي تسوده الإمبريالية العالمية التي تحمي إسرائيل قناعها وقفازها.
حرب الاستنزاف
وقد سبقت حرب أكتوبر 73 حرب استنزاف قوية 1969 - 1970، وقد سبق هذه الحرب معركة رأس العش التي تصدت فيها مجموعة صغيرة من القوات المسلحة المصرية للجيش الإسرائيلي، وأوقفت تقدم قوات العدو إلى بور سعيد، وأغارت القوات الجوية المصرية على العدو في عمق سيناء بقيادة الفريق مدكور أبو العز قائد الضربة الجوية الأولى ضد الجيش الإسرائیلي بعد 40 يوماً من نكسة 1967، وأعد وخطط للضربة الجوية الثانية التي مهدت لانتصار أكتوبر 73، كما كانت الضربة القاتلة للبحرية الإسرائيلية بإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، واستطاعت مجموعة صغيرة من الضفادع البشرية للقوات البحرية المصرية أن تدمر ثلاث بوارج حربية بميناء إيلات، وأن تدمر الميناء ذاته.
وخلال حرب الاستنزاف تم بناء حائط الصواريخ، وكان نصر أكتوبر 73 نهاية قصة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر ومحطماً اليد الطولى لإسرائيل، وليس طوفان شباب الأقصى، دون التقيل من نصرهم العظيم، ذلك أننا لا نملك بعد هذا السرد لنصر أکتوبر 1973 إلا أن نحيي أبطال طوفان الأقصى دون أن نصل إلى طمس النصر العظيم في 1973 الذي حققه التضامن العربي بقيادة مصر ومشاركة سورية والمملكة العربية السعودية، ولولا المزايدات السياسية بقيادة صدام حسين في مؤتمر بغداد ومقاطعة مصر وفقاً لقرارات هذا المؤتمر لتغير وجه تاريخ القضية الفلسطينية، ولو مرحلياً بالوصول إلى حل الدولتين، ولو على مرحلتين، بحكم ذاتي يليه دولة فلسطين مكتملة الوجود والسيادة وهو ما كان يأمله الرئيس الراحل أنور السادات في أول مباحثاته فى فندق سميراميس، عندما خصص مقعداً لفلسطين ومع ذلك فإن السادات بنبوغه السياسي لم تغب عنه العقيدة الصهيونية التي عبرت عنها غولدا مائير في التوسع من النيل إلى الفرات ولو مرحلياً إلى أن تستعيد الأمة العربية قوتها بإمكاناتها الهائلة أمام نظام عالمي متوحش يحمي ربيبته إسرائيل، ذلك أن ما لا يدرك كله لا يترك جله وفقاً للقول المأثور.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.