ثمة قصة فريدة وراء رئاسة جو بايدن، يحكيها بنفسه فيقول إنه كان قد انتهى من أمر السياسة، وتقاعد في سعادة من الحياة العامة، ثم تغير ذلك بعد رد فعل دونالد ترامب الغامض على المسيرة العنصرية في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا عام 2017، إذ أدرك الرئييس بايدن آنذاك أن الرئيس ترامب وحلفاءه يهددون ما أطلق عليه «روح الأمة»، أي التزامها بالمساواة، فعاود النزول إلى الحلبة.

ومنذ ذلك الحين، يذهب الرئيس بايدن إلى أن مناصرة المساواة هي مفتاح الحفاظ على الديموقراطية الأميركية محليا وتعزيز النفوذ الأميركي خارجيا، فقد بدأ في عام 2019 إعلانا متلفزا في حملته الانتخابية بقوله إن تشارلوتسفيل كانت بلد توماس جيفرسن الذي كتب أن «كل الناس يخلقون سواسية»، وفي خطاب قبوله الترشح في المؤتمر الوطني الديموقراطي لعام 2020 زعم أن «الغرض الأعظم» لأميركا هو «أن تكون مرة أخرى نورا للعالم، وأن ترقى أخيرا إلى التجسيد الحقيقي للكلمات المكتوبة في الوثائق المقدسة التي تأسست عليها هذه الأمة وهي أن كل الرجال والنساء يخلقون سواسية».

Ad

وفي خطاب تنصيبه سنة 2021، وصف التاريخ الأميركي بـ«الكفاح الدائم بين مثال أميركي مفاده أننا جميعاً مخلوقون سواسية، وبين واقع قبيح قاسٍ مزقتنا فيه العنصرية والقومية والخوف والشيطنة»، ووعد بأن يجعل الولايات المتحدة مرة أخرى «منارة للعالم»، ومنذ توليه السلطة جعل الرئيس الالتزام بالمساواة ليس محض حل لصعود القومية البيضاء المحلية إنما لمواجهة القوى الاستبدادية التي تهدد الديموقراطية بالخارج أيضاً.

والآن نرى هذا كله حطاماً، فمن خلال دعمه الراسخ لإسرائيل، ساند الرئيس بايدن عملياً معاملتها المنافية للمساواة للفلسطينيين، وبخاصة في غزة، وقهرها لهم، فقوَّض الأساس الأخلاقي لرئاسته.

على الصعيد المحلي، واجه الرئيس بايدن نزعات سلفه العرقية القومية بالمساواة، وكان الرئيس ترامب قد ألمح مراراً إلى أن الأميركيين غير البيض وغير المسيحيين ليسوا بأميركيين حقاً، فقال في عام 2016 إن جونزالو كورييا، القاضي المولود في إنديانا، لا يمكن أن يحكم بإنصاف في القضايا المدنية المرفوعة على جامعة ترامب بسبب تراثه المكسيكي، في ضوء وعود الرئيس ترامب بإقامة سور بين الولايات المتحدة والمكسيك. وفي 2019، طالب الرئيس ترامب بأن «ترجع» عضوات الكونغرس الأربع الملونات اللاتي يشكلن ما يعرف بـ(الفرقة)- وثلاث منهن مولودات في الولايات المتحدة- إلى بلادهن التي جئن منها، وفي المقابل، أعلن الرئيس بايدن في خطبته أمام خريجي جامعة هاورد في مايو 2023 أن أميركا قائمة على فكرة- هي فكرة المساواة في الحقوق- «لا على دين، ولا على عرق»، وعلى مدار رئاسته، صور الرئيس بايدن نفسه مدافعاً عن ذلك المبدأ في مواجهة الدعاوى الاستبدادية داخلياً وخارجياً.

لكن النظام السياسي لإسرائيل قائم صراحة على دين وعرق، إذ يعلن قانون الدولة-الأمة الخلافي الصادر في 2018 أن اليهود وحدهم هم القادرون على «ممارسة تقرير المصير الوطني»، ولا يستطيع أغلب الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية- في الضفة الغربية وقطاع غزة- أن يصبحوا مواطنين في الدولة التي تسيطر على حياتهم، وأقلية من الفلسطينيين الذين يعيشون في حدود عام 1967 لإسرائيل هم الذين ينعمون بالمواطنة وحق التصويت، لكن حينما تقدم ساسة من عرب إسرائيل بمشروع قانون كان من شأنه أن يجعل المساواة القانونية بين المواطنين العرب واليهود أساساً للقانون في إسرائيل سنة 2018، رفض رئيس البرلمان الإسرائيلي طرحه للتصويت لأنه «يقضي على أسس الدولة».

ولقد تكلمت سابقاً عن تراث صهيوني كان يتصور أن اليهود يعيشون على قدم المساواة بجانب الفلسطينيين في دولة ثنائية القومية، رغم أن أميركيين كثيرين الآن يعلمون علم البدهيات أن إسرائيل تمنح اليهود تفوقاً قانونياً.

ولكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن الرئيس بايدن لم يدعم المساواة بموجب القانون، وبسبب حرب غزة لم يعد من سبيل إلى تجاهل هذا التناقض، وخصوصا حينما يصبح هذا التناقض صارخا، إذ يعرب بايدن عن تعاطف عميق مع المعاناة الإسرائيلية ولامبالاة نسبية بعدد الموتى الفلسطينيين الأكبر بفارق هائل، أو حينما يبدو أن إدارته تميز حتى بين المواطنين الأميركيين فتبدي من الاهتمام بمن تقتلهم حماس أكثر مما تبديه بمن تقتلهم إسرائيل.

ولا عجب إذاً، وفقاً لاستطلاع أجراه معهد الشؤون العالمية في سبتمبر، أن الديموقراطيين يعدون سياسة الرئيس بايدن في غزة أكبر فشل له في السياسة الخارجية. والشباب الأميركيون بخاصة ينفرون من الهوة بين أفعال الرئيس بايدن ومثله العليا المعلنة، فقد تبين لاستطلاع رأي أجراه معهد هارفارد للسياسة أن أكثر من ثلاثة أرباع الأميركيين ممن تقل أعمارهم عن الثلاثين يرفضون سياسته تجاه حرب إسرائيل في غزة.

ولقد ألحق دعم الرئيس بايدن غير المشروط تقريباً لأفعال إسرائيل ضرراً بسمعته الدولية أيضا، فهو يزعم منذ أمد بعيد أن الولايات المتحدة- خلافاً لروسيا والصين- تدافع عن النظام «القائم على القواعد» الذي تكون فيه جميع البلاد بغض النظر عن قوتها ملتزمة بمعايير معينة، وبلغ هذا الزعم الخطابي ذروته بعد أن حاولت روسيا اجتياح كييف في فبراير 2022. فالأمر في أوكرانيا، كما قال الرئيس بايدن لجمهور بولندي في الشهر التالي، إنما هو خيار «بين نظام قائم على قواعد ونظام تحكمه القوة الغاشمة». في سبتمبر من ذلك العام قال الرئيس بايدن للأمم المتحدة إن أعضاء مجلس الأمن يجب أن «يحجموا عن استعمال حق النقض إلا في المواقف النادرة الاستثنائية». وكان ذلك توبيخاً آخر لموسكو التي استعملت حقها في النقض خلال فترة بايدن الرئاسية سبع مرات، كما كان سعياً إلى ربط الولايات المتحدة بنظام دولي أكثر إنصافاً لا تستطيع فيه حتى أقوى الأمم أن تحظى بحصانة لأفعالها، ولتقوية هذه القواعد، تردد أن إدارة بايدن في يوليو الماضي قد أمرت الولايات المتحدة بتقديم أدلة بشأن مسؤولين في الكرملين يمكن أن تساعد المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها في جرائم حرب محتملة في أوكرانيا.

ثم وقعت مجزرة السابع من أكتوبر وما أعقبها من غزو إسرائيل لغزة، في أشهر الحرب السبعة الأولى، استعملت الولايات المتحدة حق النقض ضد أربع قرارات تخص إسرائيل وفلسطين، وندد الرئيس بايدن بالمدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لمطالبته بإصدار أوامر اعتقال لزعماء من حماس وإسرائيل، ورغم تحذير الرئيس بايدن لإسرائيل من القصف «العشوائي» في غزة وإزهاق أرواح المدنيين، فقد أكد مراراً دعمه لإسرائيل وأمدها بمقادير هائلة من الأسلحة.

هكذا تبددت أي فرصة لأن يقنع الرئيس بايدن أعداداً هائلة من الأجانب بأن الولايات المتحدة تؤمن بتطبيق القانون الدولي على الجميع، فعلى مدار السنة الماضية، وفقاً لمركز بيو البحثي، تهاوت نسبة من يثقون في أن الرئيس بايدن «يفعل الصواب فيما يتعلق بالشؤون العالمية» انخفاضاً ضخماً في كل من بريطانيا واليابان وأستراليا وإسبانيا والسويد، وكلهم حلفاء أساسيون في صراع القوى العظمى الذي يخوضه الرئيس بايدن ضد موسكو وبكين. وثقة البريطانيين والكنديين والإيطاليين في الرئيس بايدن اليوم أقل من ثقتهم في جورج بوش الابن في عام 2003، أي في عام غزو العراق.

في الشهر الماضي، في خطابه الأخير أمام الأمم المتحدة، اعترف الرئيس بايدن بأن «الكثيرين ينظرون إلى العالم اليوم فيرون مصاعب ويشعرون باليأس»، لكن ما لم يعترف به هو أنه أسهم شخصياً في هذا اليأس، في نظر كثير ممن يؤمنون برؤية المساواة التي أوضحها يوما الرئيس بايدن بنفسه، وذلك بمعاملته فعلياً للفلسطينيين باعتبارهم بشراً أدنى، وبمعاملته الإسرائيليين باعتبارهم أعلى من القانون الدولي.

قبل أيام قليلة من خطاب الرئيس بايدن، أصدرت وزارة الصحة في غزة بياناً مصوراً بأسماء وأعمار الفلسطينيين الذين لقوا مصرعهم في هذه الحرب، وبحسب صحيفة غارديان، فإن أول مئة صفحة تتألف بالكامل من أسماء أطفال ماتوا وهم دون سن العاشرة، وحتماً سيكون لأرواح هؤلاء وزنها عندما يقيم المؤرخون الرئيس بايدن وعلى أي نحو صاغ «روح هذه الأمة».

* بيتر بينارت أستاذ في كلية نيومارك للصحافة بجامعة نيويورك*