وزارة الصحة بين نكبتين ومفترق طرق
مرت وزارة الصحة في الكويت، منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، بمرحلتين قاسيتين يمكن وصفهما بالنكبتين اللتين لا ثالث لهما، تسببتا في زعزعة النظام الصحي، وتركتا آثاراً عميقة في بنيتها الإدارية والتنظيمية. النكبة الأولى حدثت قبل حوالي عشر سنوات، حين شهدت الوزارة استباحة فجّة للمال العام من أعلى المستويات. هذا التسيب المالي لم يتوقف عند القيادات العليا، بل تسرب إلى كل المستويات الإدارية الدنيا، ليصبح الفساد المالي والرشوة جزءاً من المنظومة الإدارية، حتى باتت الوزارة مرتعاً للاستفادة الشخصية على حساب جودة الخدمة الصحية المقدمة للمواطنين والمقيمين.
أما النكبة الثانية، فكانت عندما انقلب الهرم الإداري رأساً على عقب بفعل التدخلات السياسية والوساطات التي شلّت حركة الإدارة الحكومية. شهدت هذه الفترة تعيين مسؤولين وقيادات دون أي ضوابط حاكمة، مما أدى إلى استبعاد الكفاءات وأصحاب الخبرات لصالح مَن يتمتعون بحظوة لدى نواب مجلس الأمة أو قوى سياسية نافذة. في تلك المرحلة، أصبحت القوانين والأعراف الإدارية الموروثة في الوزارة عرضة للخرق والتلاعب، وتفاقمت الفجوة بين الواقع الإداري المترهل ومتطلبات الإصلاح العاجل، مما أدى إلى انهيار ميزان العدل وإضعاف هيكلية النظام الصحي بشكل لم يشهده من قبل.
هذه الأزمات المتلاحقة أدت إلى تشوه المنظومة الصحية، فتدهور أداء الصفين الأول والثاني من القيادات، ولم يعد هناك بديل قادر على تصحيح هذا الاعوجاج. وعلى الرغم من محاولات الإصلاح المتعددة، فإن تلك المحاولات لم تستطع سد الهوة العميقة التي نتجت عن هذه النكبات، بسبب رسوخ مفهوم «الهرم الإداري المقلوب» في أذهان الكثير من المسؤولين.
في ظل هذه الأزمات، جاء مشروع مستشفيات الضمان كفرصة ذهبية لإحداث الصدمة الإيجابية المطلوبة لإعادة هيكلة النظام الصحي. المشروع، الذي يهدف إلى توفير رعاية صحية متميزة لعدد من 2 إلى 3 ملايين وافد، كان من المفترض أن يكون مدخلاً لتخفيف الضغط الهائل على المستشفيات الحكومية، وتحقيق التوازن المالي في ميزانية الوزارة، وتوجيه الموارد لتطوير الخدمات الصحية المقدمة للمواطن الكويتي. لكن المشروع اصطدم بخلافات قانونية محتدمة بين هيئة الاستثمار والشريك الاستراتيجي، إلى جانب العراقيل التي وضعتها وزارة الصحة نفسها، التي أبدت رفضاً مبطناً للمشروع رغم فوائده الجمة.
ولعل هذه العراقيل التي تمثلت في تأخير توقيع العقود وعرقلة الاجتماعات وعدم حلّ النزاعات القانونية، تشير إلى أن هناك مَن لا يرغب في نجاح هذا المشروع، خوفاً من فقدان الامتيازات والمكاسب التي حققتها بعض القيادات البيروقراطية التي ترى في «الوضع القائم» بيئة مناسبة لمصالحها.
إن تشغيل مستشفيات الضمان بات ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل، ويجب على الأطراف المعنية – هيئة الاستثمار والشريك الاستراتيجي ووزارة الصحة – أن يقدموا تنازلات حقيقية لصالح المصلحة الوطنية. فخروج ما يتراوح بين 2 و3 ملايين وافد من عبء المستشفيات الحكومية سيساهم في تخفيف الضغط على النظام الصحي بنسبة كبيرة، وسيمهد الطريق لإعادة تشكيل بنية النظام الصحي في الكويت بشكل كامل.
إن هذه الصدمة الإيجابية لا بد أن تتبعها خطوات أكثر جذرية، تتمثل في تحويل المستشفيات الحكومية والمراكز التابعة لها إلى شركات تابعة لهيئة الاستثمار، تديرها بكفاءة وفق أنظمة القطاع الخاص، مع توفير بوليصة تأمين شاملة للمواطنين، تغطي حتى العلاج في الخارج. هذا التحول لن يساهم فقط في تحسين مستوى الرعاية الصحية، بل سيقلل من الهدر المالي والإداري الذي كثيراً ما عانته الوزارة.
إن هذا النموذج المقترح ليس جديداً، فقد طرحت الكويت في عام 2003 مشروعاً مشابهاً على مجلس وزراء الصحة لدول الخليج، لكن تطبيقه لم يرَ النور إلا في دول مثل السعودية والإمارات والبحرين وقطر، بينما تعثرت الكويت تحت وطأة التدخلات السياسية، وضعف الإدارة الحكومية، وتحالفات المصالح التي تعرقل أي محاولة جادة للإصلاح.
لقد آن الأوان للقيام بخطوات استثنائية لفرض الحلول، ووقف النزاعات التي تهدر طاقات الدولة، وتعطل مسيرة التطوير. إن فرض الحل في ملف مستشفيات الضمان هو المفتاح لإحداث «الصدمة المدروسة» التي ستعيد ترتيب الأوراق، وتنقذ النظام الصحي من فوضى عقود طويلة من الإدارة المرتجلة. بذلك، ستتمكن وزارة الصحة من تجاوز هاتين النكبتين، والعودة إلى مسارها الصحيح، في خدمة المواطن الكويتي وتقديم رعاية صحية تليق بمكانة البلاد ومستقبلها.
* وزير الصحة الأسبق