من أجمل الطرق المؤدية الى العواصم المختلفة في قلب عالمنا هذا وأكثرها إثارة تلك المسارات التاريخية التي يستطيع المرء من خلالها تلمس أحداث الماضي باحثا عن دروس مستفادة، فيدخل قارة أوروبا من بوابة التاريخ عابراً القرون ومتجاوزاً الأحداث، ليقلب صفحات الماضي ويصل إلى القرن الثامن عشر، باحثاً عن ملامح يستطيع من خلالها التعرف على خطوط الزمن في وجه القارة «العجوز»، فيتوقف في القرن الثامن عشر عند إحدى معارك السياسة والاقتصاد.
وما إن تدفقت الثروات على القارة الأوروبية وسط نمو الرأسمالية في القرن الثامن عشر وخضوع الثروة والثقافة والطموح السياسي للطبقة البرجوازية حتى اجتاحت رياح التغيير العواصم الأوروبية، ففرنسا على سبيل المثال في القرن الثامن عشر أنهكتها الحروب وسط تكالب موجات الإصلاح والتغيير من هنا وهناك، والثورة الفرنسية التي هزتها مشتعلة بنار الضرائب لإنهاء النظام الإقطاعي ومطالبة بالتوزيع العادل لملكية الأراضي وإلغاء امتيازات النبلاء، تمخض عنها إعلان حقوق الإنسان والمواطن.
وبعدها بمراحل أصبحت الطرق ممهدة لنمو الاقتصاد والازدهار معا، ولم يخل الأمر من مطبات الإنفاق والضرائب وسبل التمثيل السياسي وغيرها، وفي المحطة التالية، أي في مدخل العصر الحديث واقترابا من القرن التاسع عشر، بدت فرنسا متألقة في عاصمتها باريس الشابة التي تتباهى بالصور الفنية لأهل الفن والذوق والعربات التي تجرها الأحصنة والسينما وصارت حديث المجتمع.
وبعد المغامرات النابليونية اختارت عاصمة الجمهورية أن تعزز مكانتها وأن ترسل رسائل الأمن والسلام عبر معرضها الدولي الذي أقامته عام 1900 احتفالا بالمستقبل، ففتحت ذراعيها للعالم وأحاطت نفسها بمستعمراتها آنذاك من دول الشمال الإفريقي، كان المزاج الأوروبي العام يحوم حول التفاؤل بمخرجات الثورة الصناعية وإنتاج المزيد من السيارات، وساهمت الكهرباء في إنارة المستقبل.
وعلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية سعت الولايات المتحدة للمساهمة في المزاج الصناعي المتطور، ودخولا إلى مجتمع القرن العشرين، وما إن حقق الرجل انتصارات حتى جاءت «ماري كوري» مهاجرة من بولندا لنيل العلم بباريس فحصلت على مقعدها في الجامعة لدراسة الفيزياء، وحصدت جوائز نوبل بعدما أمطرت العالم باكتشافاتها واختراعاتها في المجالات العلمية، ووسط ذلك كله لم يخطر ببال أحد أن الغيوم قد بدأت تتلبد في سماء العواصم الأوروبية، والعلاقات الدولية بدأت تتوتر في مطلع القرن العشرين، فأصبح الصراع على النفوذ في الدول العربية شمال إفريقيا آنذاك وسط اشتعال النزعات القومية وتطلع بعض الأقليات للاستقلال.
وأشعل ذلك أيضا المنافسة الاقتصادية لاقتسام النفوذ والهيمنة على خطوط الطاقة والإنتاج وتنافس التحالفات نحو التمدد وبسط النفوذ الذي أصبح سيد المرحلة، ودول الحياد خرجت عن صمتها وانضمت لدوائر التحالفات مثيرة غبار الخلافات وقارعة طبول الحرب العالمية الأولى التي سيأتي ذكرها خلال المقالات القادمة.
وللحديث بقية.كلمة أخيرة:
الاستثمار في القوة الناعمة لا يأتي عبر تجنيد الموظف ليلقي كلمة جوفاء لا تمتّ لمشاعره بصلة ولا يربطه بها إلا راتبه الشهري، بل يأتي من محبي هذا الوطن الذين عرفوا بعطائهم دون مقابل، فأتمنى عدم تهميشهم.