سلط التقرير الذي نشرته مجموعة العمل المالي «فاتف» عن أوضاع مكافحة غسل أو تبييض الأموال في الكويت، الضوء على ما أسماه «أوجه قصور خطيرة» في هذا المجال، مشيرا إلى أن «الكويت لديها فهم بدائي لمخاطر الجرائم المالية التي تواجهها على المستوى الوطني، وفهم ضعيف لمخاطر تمويل الإرهاب».
ومع أن «فاتف»، التي أُسست عام 1989 وتضمّ 200 دولة ومنظمة ومجموعات العمل المالي الإقليمية، إلى جانب الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والإنتربول ومجموعة «إيغمونت» لوحدات الاستخبارات المالية، لم تدرج الكويت في القائمة الرمادية الخاصة بالرقابة المشددة، لكنها أشارت بوضوح، في معرض تقريرها إلى مجموعة من النقاط المهمة التي كشفت المناطق الرخوة حيث تنفذ فيها عمليات الجرائم المالية، من خلال استغلال الثغرات القانونية، والقصور المؤسسي، ومحدودية نطاق السلطات المالية.
خطورة وتداخل
فبينما امتدحت المجموعة ما اعتبرته «الفهم الجيد» لمؤسسات التنظيم والرقابة والإشراف، مثل بنك الكويت المركزي وهيئة أسواق المال ووحدة تنظيم التأمين، والبنوك، والمؤسسات المالية، ووصفتها بأن لديها «فهم جيد للمخاطر» فقد نبهت إلى قطاعات أخرى معظمها تجارية غير مالية أو محدودة الرقابة مثل قطاعات الصرافة والعقار والذهب والأصول الافتراضية بوصفها الأكثر خطورة في مجال الجرائم المالية من قبيل غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ناهيك عن وجود تداخل بين قضايا الاحتيال والفساد والتزوير والاتجار بالبشر مع عمليات غسل الأموال.
أزمة الفاعلية
اللافت في سياق تقرير «فاتف» هو إشارتها إلى أن الكويت لديها إطار قانوني ورقابي مناسب لمكافحة التمويل غير القانوني، لكن أوجه القصور الخطيرة تظهر على صعيد الفاعلية. وبشكل أوضح أشارت «فاتف» إلى أنه رغم زيادة حجم التحقيقات في جرائم غسل الأموال، فإن التحدي يبقى في إثبات الإدانة، ناهيك عن عدم وجود عقوبات لعدم الامتثال لمتطلبات المعلومات الأساسية للأشخاص الاعتباريين، وهذه كلها تشير إلى مسؤولية وحدة التحريات المالية في رفع مهنية واحترافية التقارير الخاصة بالجرائم المالية المحتملة، خصوصاً أن الوحدة تعاني منذ نحو سبع سنوات إهمالاً حكومياً غير مبرر، كونها تدار بالتكليف، بلا رئيس أصيل - مثلها مثل العديد من الجهات الحكومية - ناهيك عن قلة عدد موظفيها، مما أدى إلى وضع غير مستقر أفرز ضريبة في مهنية وأداء وكفاءة الوحدة، وهي ليست كغيرها من الجهات الجهات الحكومية التي تعاني جموداً بسبب استمرار قياداتها بالتكليف، فالإخفاق في عمل الوحدة ينعكس على سمعة النظام المالي في البلاد في حال تعرضت يوماً لإدراج الكويت في القائمة الرمادية لمجموعة «فاتف» أو حتى وضعها تحت قواعد المراقبة المشددة.
امتثال وتجاوز
كما حمل تقرير «فاتف» إشارة لافتة تتمثل في قصور جوهري بالتعامل مع قضايا الجرائم المالية، وهو ما يرتبط حسب وصف التقرير بغياب «عقوبات متاحة لعدم الامتثال لمتطلبات المعلومات الأساسية للأشخاص الاعتباريين» أي أن جانباً كبيراً من القواعد والنظم يمكن تجاوزها أو اختراقها دون التزام قانوني صارم أو فعال.
ولعل مسألة فاعلية التحقيقات وتحدي إثبات الإدانة تعيد إلى الأذهان تشكيل لجنة وزارية في يوليو 2020 اعترفت في مضامينها بوجود أوجه قصور في ملف غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وحاجة لرفع كفاءة وحدة التحريات المالية، وتدعيم استقلاليتها، وتعزيز صلاحياتها وأدواتها، ومع أن اللجنة الوزارية وضعت تقريرها خلال أسابيع قليلة إلّا أن توصياتها لم تعلن ولم ترَ النور مُذّاك الوقت!
بيئة ضعيفة ومحفزة
في الحقيقة يمكن القول، إن إمكانية تجاوز الجرائم المالية لمؤسسات الرقابة والإشراف في البلاد ليست مسألة مستغربة، خصوصاً مع وجود بيئة ضعيفة ومحفزة، فإعلانات الدعوة للاستثمار والتداول المشبوهة في الأسهم والعملات غير المرخصة لا تنحصر فقط في وسائل التواصل الاجتماعي، إنما في إعلانات الشوارع دون رادع، علاوة على أن عمليات التداول النقدي المرتفعة لا تزال معتمدة في السوق من المطاعم والكافيهات إلى المتاجر فالصيدليات وصولاً إلى إيجارات العقارات فقطع الغيار والمعدات صعوداً إلى تجارة الذهب والسبائك والمقتنيات الثمينة وأعمال الصرافة والتحويلات المالية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البيانات الصادرة من وزارة التجارة والصناعة أو الإدارة العامة للإحصاء، لفهم حركة التداول التجاري والسلعي في البلاد، ليست قديمة فقط بل أيضاً عمومية لا يمكن أن تعطي مدلولات تحليلية لمتخذ القرار.
تراخٍ وفهم
إن التراخي في مسألة معالجة الخاصرة الرخوة للجرائم المالية سيفتح على الكويت تحديات لا يريد أحد أن يتعرض لها النظام الاقتصادي في البلاد، التي تعرضت خلال سنوات سابقة لفضائح مالية مشبوهة هزت الرأي العام وكشفت محدودية فاعلية المؤسسات، كالإيداعات المليونية، والتحويلات، وضيافة الداخلية وصندوقي الجيش والماليزي والنائب البنغالي والتاجر الإيراني وقضايا النصب العقاري وعشرات القضايا المرتبطة بالمشاهير وغيرهم، وهذه كلها أوضاع تتطلب فهم واقع أهمية التصدي للجرائم المالية، وهو فهم لم تنتبه إليه وزارة المالية عندما اقترحت في مذكرتها الأخيرة الخاصة بدمج وتقليص الهيئات والأجهزة العامة في الكويت بدمج وحدة التحريات المالية مع وزارة العدل، فيما أبسط منطق يشير إلى أن الوحدة من خلال عملها وصلاحياتها ووظيفتها هي جهة مالية موجهة نحو عمليات السوق يفترض أن تتبع جهة اقتصادية كوزارتي المالية أو التجارة أو على الأقل بنك الكويت المركزي.
بداية تدمير
صحيح أن التراخي مع الجرائم المالية يحمل في طياته العديد من الأمور السيئة كتدني السمعة الدولية أو ارتفاع مخاطر خفض تصنيف الكويت في المؤشرات العالمية، فضلاً عن أنه يجعل جذب الاستثمارات الأجنبية الضئيلة أصلاً في البلاد أكثر صعوبة، إضافة إلى رفع درجة القيود والضغوط على الاستثمارات السيادية للبلاد في الأسواق العالمية، ناهيك عن زيادة المصاعب الخاصة بحركة التبادل التجاري بين الكويت والعالم، إلا أن الأسوأ على الإطلاق عندما نهمل ملفاً أساسياً كمحاربة غسل الأموال هو أننا نشجع المجتمع على ثقافة «الأموال السهلة» الناتجة عن الأنشطة المشبوهة، والتي تحقق العوائد العالية دون إنتاج أو إبداع أو عمل أو تعليم... وهذا بلا شك بداية تدمير لأي مجتمع أو اقتصاد أو بلد.