لم يحظ أي مشروع علمي في العصر الحديث باهتمام كبار قادة العالم كما حظي به مشروع مفاعل «ايتير» النووي، الذي تم بتحالف 35 دولة ضمت كبرى الدول وهي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والهند وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، بميزانية تخطت حتى الآن 30 مليار دولار، ومقره في جنوب صحراء فرنسا، حيث يهدف إلى إنتاج طاقة نظيفة مستدامة عبر حقيقة علمية فيزيائية، وهي بشكل علمي مبسط اندماج نووي بدرجة حرارة عالية جدا لذرتين خفيفتين لتشكيل نواة واحدة أثقل، بهذا الاندماج ستطلق معها كمية هائلة من الطاقة ستضيء نصف الكرة الأرضية، إذ لا عجب أنهم أطلقوا عليها مشروع الشمس الصغيرة.

المشروع العلمي الضخم الذي كانت العيون شاخصة عليه من علماء وسياسيين واقتصاديين منذ بدء انطلاقه عام 2010 وتم الانتهاء من أكثر من 80% منه، وكان من المقرر أن ينطلق تجريبياً في بداية عام 2025 إلا أن رئيس المشروع فاجأ العالم المترقب له بحماس شديد حين أدلى منذ فترة قصيرة بأن خطأ ما قد حدث، سيؤجل الانطلاق الى عدة سنوات.

Ad

مشروع «ايتير» والأحاديث حول إخفاقه قبل أشهر فقط من انطلاقه بين من يدّعي أن هناك مشكلات إدارية حصلت وأن هناك أيادي خفية تسببت في إيقافه، وبين أسباب علمية بحتة تتعلق بالسلامة، والحديث حول الأسباب المفاجئة يطول ولا يمكن علمياً التثبت من صحتها، إلا أن ذلك لا ينكر أن هذا المشروع الذي كان قاب قوسين من الانتهاء كان سيغير قواعد وشكل القوى في العالم الحديث اقتصادياً وسياسياً وعلمياً، وله أبعاد جيوسياسية عميقة جداً، فالدول المشاركة فيه كانت ستصعد إلى مكانة القوى العظمى، وسيكون لها القدرة على التأثير في سياسات الطاقة العالمية، بل تحديد مستقبل الطاقة في العالم.

ثمة شعور بالأسى راودني وأنا أتابع علمياً هذا الحدث في المجلات العلمية المتخصصة بحكم تخصصنا العلمي، وأن مثل هذا المشروع العلمي العالمي الضخم لم يحظ بأي تغطية إعلامية باللغة العربية مكثفة أو متابعة لتطوراته، كما حظي بها في الصحافة العالمية بكل اللغات رغم أبعاده الكبيرة المؤثرة التي ستغير شكل العالم بشكل جذري، والحديث حول الآثار يحتاج إلى عشرات بل مئات المقالات للكتابة حوله.

لكن سأختصرها بالتوجه إلى مفصل المقال بالسؤال الذي يطرح نفسه الآن، مئات عباقرة العلماء من مختلف العالم عملوا في هذا المشروع الأضخم، وأوشكوا على الانتهاء منه، واكتسبوا خبرة عميقة جداً على مدار 14 عاماً، هل يمكن أن تفرط بهم دولهم أو تتجاهل حلمها في السباق العالمي النووي؟ الإجابة حتما ستكون: لا.

يكفي أن نذكر أن العديد من كبرى شركات القطاع الخاص العالمية قد أعلنت أنها ستتوجه في استثماراتها إلى هذا القطاع الحيوي الهام، وخصوصاً أن العلماء قطعوا شوطاً كبيراً فيه، فأين نحن من هذا الركب العلمي المتقدم وماذا عن بلدي الكويت؟ وكيف يمكن أن تكون في هذا السباق العالمي الذي سينطلق بقوة وبين تهافت الدول على استقطاب العلماء بهذا المجال؟

فالمطلع على المشهد العالمي يدرك تماماً أن اتجاه الدول الحالي هو تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والاتجاه قدر المستطاع نحو الطاقة النظيفة الآمنة، والكويت كبلد متزايد الطلب فيه على الكهرباء والنمو السكاني فيه تستطيع تأمين نفسها بتزويد الكهرباء بمفاعل نووي سلمي مصغر أو على الأقل البدء بالاهتمام بدراسة الخيارات الممكنة والاستفادة من تجارب الدول المجاورة في هذا المجال، وليست ببعيدة عنا تجربة دولة الإمارات المتحدة التي تعد أول دولة خليجية نجحت في مشروعها النووي السلمي محطة «براكة» للطاقة النووية التي انطلقت في عام 2020 لتأمين 25% من الكهرباء من احتياجات الدولة، كما انطلقت المملكة العربية السعودية بتدريب كوادرها الوطنية ودراسة الخطط لبناء مفاعلات نووية سلمية وتطوير البنى التحتية للتوافق معها وفقا لرؤية المملكة 2030.

والحقيقة تقال بأن الكويت كانت لها الريادة في هذا المجال خليجياً في بداية الألفية، لكن توقف المشروع لمخاوف تتعلق بالسلامة بعد أحداث محطة «فوكوشيما» اليابانية التي غمرتها مياه تسونامي والآثار التي خلفتها آنذاك، والآن وبعد هذه السنوات وتطور مجال المفاعلات النووية السلمية وخبرات مفاعل «ايتير» والتوجه العالمي نحو تقليل الانبعاثات الكربونية يجب التفكير جدياً في التحديات والاستثمار في الأمن الطاقي للكويت والاستدامة البيئة لمواكبة التطورات العلمية واللحاق في الركب العالمي المتجدد.