حوار بين السنوار وجيفارا
كنت في الستينيات والسبعينيات أيام الشباب مؤيداً للقوى الثورية الاشتراكية والشيوعية، ومن قيادات العمل الطلابي آنذاك الذي يؤمن بالماركسية كمخرج للشعوب المضطهدة من الرأسمالية والإمبريالية الغربية. (رغم كوننا والمعارضة الكويتية آنذاك من الطبقة البرجوازية).
في تلك الفترة، كنت أردد أناشيد الشيخ إمام، وقصائد الشاعر الملهم والشيوعي الوطني أحمد فؤاد نجم، وكانت صورة جيفارا تمتد على جدار شقتنا في القاهرة. كان ذلك الزمن مليئاً بالأمل والنضال من أجل التحرر، ورموز مثل جيفارا كانت تعبِّر عن هذا النضال العالمي.
في حوار جمعني أخيراً مع صديق من «المنبر الديموقراطي» قبل أن أقرأ المقال المميز للأديبة الكاتبة رانية السعد حول جيفارا، تطرقت إلى يحيى السنوار، قائد المقاومة في غزة، وتنبأت لصديقي بأن السنوار سيكون رمزاً وأيقونة لهذا العصر، ليس فقط للمقاومة الإسلامية، بل وللجماعات التي تتبنى فكر الإخوان المسلمين وغيرها. تماماً كما كان جيفارا رمزاً للنضال الثوري لعقود مضت. عند حديثي عن السنوار، تذكَّرت قصيدة أحمد فؤاد نجم الشهيرة عن جيفارا التي لا أزال أحفظها عن ظهر قلب، وبدأها قائلاً:
**جيفارا مات**
جيفارا مات
آخر خبر ف الراديوهات
وفي الكنايس
والجوامع
وفي الحواري
والشوارع
وع القهاوي وع البارات
جيفارا مات
جيفارا مات
وامتد حبل الدردشة والتعليقات
مات المناضل المثال
يا ميت خسارة ع الرجال
مات البطل فوق مدفعه جوه الغابات
جسد نضاله بمصرعه
ومن سكات
لا طبالين يفرقعوا
ولا إعلانات
ما رأيكم دام عزكم
يا أنتيكات
يا غرقانين
ف المأكولات والمشروبات
يا دفيانين
ومولعين الدفايات
ثم توقفت لأتأمل وكأنه يقولها اليوم (الكلمة للنار والحديد - والعدل أخرس أو جبان- هذا المزيج من الصمود والشجاعة في وجه الظلم، والذي يتجلى ليس فقط في جيفارا، بل أيضاً في السنوار. كلاهما كان يدافع عن أرضه وعن شعبه حتى اللحظات الأخيرة، وكلاهما حمل السلاح وأصر على المقاومة حتى النفس الأخير).
إن مقاومة الظلم والقهر والعدوان صفة متجذرة ومتجددة في أعماق النفس البشرية، وهي بذاتها عقيدة يعيش ويموت البشر على الإيمان بها. ففي تاريخ البشرية، شهدنا حركات التحرر الوطني في مختلف أنحاء العالم، من هوشي منه هانوي في فيتنام إلى تشي جيفارا بوليفيا وأميركا الجنوبية، حيث قُدِّمت الأرواح والدماء دفاعاً عن الأرض والحرية.
هذه الحركات، سواء قام بالتنظير لها ماركس أو لينين أو غيرهم من الثوار، تعكس النضال البشري المستمر ضد الطغيان والاستبداد.
كما كان جيفارا رمزاً للمقاومة في أميركا اللاتينية، وغيرها من حركات التحرر حول العالم، أرى في السنوار رمزاً مماثلاً، ليس فقط للمقاومة الفلسطينية، بل لمقاومة كل من يواجه الظلم والاحتلال. السنوار، مثل جيفارا، يمثل رفضاً للانصياع والقبول بالقهر، وكلاهما آمن بأن النضال ليس خياراً، بل هو واجب. ومع ذلك، هناك فرق جوهري بين نضال جيفارا والثوار الاشتراكيين وبين المقاومة الإسلامية التي يمثلها السنوار.
المقاومة الإسلامية تستند إلى عقيدة متجذرة ومتجددة في أعماق المسلمين، وهي مستمدة من القرآن المحفوظ الذي يتلونه من شرق الأرض إلى غربها، ومن السنة النبوية التي يؤمنون بها، إضافة إلى الصلاة التي يؤدونها كل يوم.
هذا الارتباط العميق بين العقيدة والحياة اليومية يعطي للمقاومة الإسلامية بُعداً أعمق. الجهاد في الإسلام ليس مجرَّد دفاع عن الأرض، بل هو ذروة سنام الدين، ويمتد ليشمل الدفاع عن الأمة الإسلامية بأسرها وعن المبادئ الدينية.
بينما كان غيفارا يواجه الظلم ويقاتل لتحرير الشعوب من الاستعمار الإمبريالي، كان يرى الموت وسيلة لتحقيق العدالة الأرضية. في المقابل، يرى المجاهد المسلم، مثل السنوار، أن الجهاد هو جزء من العقيدة الإسلامية، وأن النضال ليس فقط لتحرير الأرض، بل لنصرة الإسلام.
هنا تكمن الفروق الجوهرية بين المقاومة اليسارية التي تنتهي بانتهاء الحياة الأرضية، والمقاومة الإسلامية التي تمتد إلى الحياة الآخرة.
إنه قرآن يرتله المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون». لاحظ دعوة قرآنية صريحة للاستمرار ومواصلة الكفاح.
في النهاية، تظل مقاومة الظلم والعدوان قاسماً مشتركاً بين الحركات الثورية والإسلامية، ولكن منطلقات وأهداف كل منهما تختلف. في حين تركز الحركات الثورية على تحقيق العدالة الاجتماعية على الأرض، ترتبط المقاومة الإسلامية بالآخرة، حيث الشهادة والجهاد جزء من العقيدة.
يظل السنوار، تماماً كما كان جيفارا، رمزاً للنضال، ولكن بُعده الديني يمنح مقاومته طابعاً أعمق يتجاوز حدود الأرض إلى السماء.
وزير الصحة الأسبق