ما قل ودل: حرب بالوكالة عن الإمبريالية العالمية وريثة الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة (1-2)
لم يخلد التاريخ من إمبراطوريات، يسيطر شعبها على شعوب مستضعفة، عقب الحرب التي شنتها الدول الكبرى على أراض استوطنت فيها، في مصر، وما بين النهرين، وآشور وفارس، وفي الإمبراطوريات الثلاث الرومانية والبيزنطية ثم الإمبراطورية العثمانية، وغيرها من إمبراطوريات، اغتصبت أراضي الشعوب والدول الأخرى بالقوة مثل الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الفرنسية، والإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية الصينية والإمبراطورية النمساوية.
ولا يتسع المقال، للخوض في بداية هذه الإمبراطوريات ونهايتها أو انحلالها في سياق ما نتحدث عنه من ظهور إمبراطورية جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، وانتصار الحلفاء على دول المحور، هي الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تكن في حاجة الى التوسع والاستيطان في أراضي الشعوب الأخرى، مثل سائر الإمبراطوريات، فهي قارة كبيرة، ولها تجربتها المريرة في الصين وفيتنام وكوريا، الأمر الذي تختلف فيه هذه الإمبراطورية، باعتبارها قوى اقتصادية وسياسية وعسكرية أخرى، رسم خطوطها بدقة وإتقان، الرئيس الأميركي ويلسون في برنامجه الذي وضعه في مطلع القرن الثامن عشر، وقد أوشكت الحرب العالمية الثانية على نهايتها في 14 نقطة، لوضع حد لنهاية الحروب بين الدول الاستعمارية الكبرى، التي سقطت خمس منها في أعتاب هذه الحرب، وهو البرنامج الذي أفضى إلى ما عليه العالم الآن، من سيطرة الأمة الأميركية على العالم، بإخضاع دوله وشعوبه لنفوذها وسيطرتها بما في ذلك نهب ثرواته الطبيعية، بالتعاون مع الإمبراطوريات السابقة، بعد أفول نجمها، من خلال الشركات المتعددة الجنسيات، وليس ثمة ما يمنع من استخدام العنف والاحتلال العسكري، أو التأثير على بعض الأنظمة الحاكمة المقررة، إن لزم الأمر، في دول أميركا اللاتينية، وفي مصر إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وقد رفع شعار القومية العربية، وأخذ دعم حركات التحرير في الوطن العربي وفي إفريقيا وشارك في حركة عدم الانحياز التي شكلت في باندونغ بعداً ثالثاً للصراع والحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي وغير بعيد الباخرة ليبرتي التي قدمت الدعم لإسرائيل في حرب 1967.
إسرائيل مركز استيطان للإمبريالية
ومن هنا تفتق ذهن ترومان الرئيس الأميركي الأسبق وحلفاؤه أصحاب الإمبراطوريات التي أفل نجمها الاستيطاني في الدول المحتلة، عن إنشاء مراكز استيطانية للاستعمار الجديد، لعل أحدها وأبرزها إقامة وطن ليهود العالم في فلسطين، وإنشاء دولة إسرائيل، التي كانت أول دولة تقبل في هيئة الأمم المتحدة، وتنال موافقة جميع الدول العظمى صاحبة حق الفيتو في مجلس الأمم، في الوقت الذي علقت طلبات دول أخرى في الانضمام إلى الهيئة إلى عام 1965.
لذلك فنحن غارقون حتى آذاننا في وهم عريض هو أن تضغط أميركا على إسرائيل لوقف الحرب على غزة، أو أن تكون لبايدن سياسة مختلفة عن سلفه ترامب، أو أن تكون لهاريس، مرشحة الحزب الديموقراطي في انتخابات الرئاسة الأميركية، سياسة مختلفة عن سياسة ترامب تجاه إسرائيل.
ولقد كان بايدن صريحا عندما قال مقولته الشهيرة، إبان عضويته في مجلس الشيوخ، «لو لم توجد إسرائيل لأوجدناها»، ونسي أو تناسى، أن أميركا هي التي أوجدت إسرائيل، فيما مارسته من ضغوط على دول العالم، لإنشاء وطن لليهود في فلسطين بقرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة في عام 1947.
إن إسرائيل في كل حروبها، وفي احتلالها للأرض العربية في فلسطين، إنما تقوم بوظيفتها التي أنشئت من أجلها، وهي حماية مصالح الاستعمار الجديد الذي تتولى زعامته وقيادته الولايات المتحدة الأميركية، والاختلاف أو الخلاف بين الولايات المتحدة الأميركية وبين إسرائيل هو خلاف في التفاصيل، وعبوس بايدن أو عدم انصياع إسرائيل لبعض الطلبات الأميركية هو خلاف داخلي أشبه باختلاف ولايات الشمال الأميركية عن ولايات الجنوب، واختلاف بعض الولايات عن بعضها في تشريعاتها وأنظمتها، وفي تأييد أي من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، والخلاف بين الحزبين، داخل الكونغرس وداخل مجلس الشيوخ، خلاف لا ضرر منه، طالما لا يمس الثوابت التي خلقت وأنشئت من أجلها إسرائيل، وهي حماية مصالح الاستعمار الجديد في نهب ثروات آسيا وإفريقيا، فهي الطريق الى هاتين القارتين بحكم موقعهما الجغرافي الفريد، ولهذا عُدل عن أوغندا كوطن ليهودي العالم، لأنها لا تتمتع بمثل هذا الموقف، كمخلب قط في قلب الوطن العربي، بعد سقوط الحكومة العثمانية في الحرب العالمية الأولى واحتلال أراضي الخلافة بين الإمبراطوريتين، فلا تنتظروا من أميركا حياداً أو موقفا منصفا أو عادلا.
حل الدولتين
والخلاف بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي حول حل الدولتين هو خلاف ظاهري لأن كليهما ينتهي الى رفض إقامة دولة فلسطينية، إذ يؤكد بايدين الرئيس الحالي ما استقر عليه الحزب الديموقراطي من أن حل الدولتين لا يكون إلا من خلال ما تسفر عنه مفاوضات الجانبين، أي أن إنشاء دولة لفلسطين يكون رهينا بإرادة إسرائيل وحدها، وهي دولة منزوعة السلاح وهو وضع لا يختلف كثيرا أو قليلا عن وضع غزة والضفة الغربية الحالي.
وقد مضى على اتفاق أوسلو الذي اعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل وحقها في الوجود، أكثر من ثلاثة عقود دون أي بادرة من إسرائيل لمفاوضات جدية، فالاستيطان يسير على قدم وساق في كل الأراضي الفلسطينية، وهدم بيوت الفلسطينيين يجري بقرارات إدارية تقننها المحاكم والقوانين التي يقرها الكنيست.
وفي هذا السياق لمن يشاطرون العدو الإسرائيلي بإلقاء تبعة الحرب على غزة وما تبعها من حرب على لبنان وسورية واليمن وإيران على طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي وعلى حماس أقول لهم إن حرب الاستقلال الأميركية 1775-1783 التي انطلقت من عقالها في التاسع عشر من شهر أبريل سنة 1774 بتعيين الجنرال جورج واشنطن قائدا عاما لجيش الولايات الثلاث عشرة في الشمال بعد أن تلكأ ملك بريطانيا جورج الثالث في الاستجابة لمؤتمر هذه الولايات الذي انعقد في فيلادلفيا والذي دعا الحكومة البريطانية لإلغاء القوانين الظالمة التي يحررها برلمانه، والتي فرض فيها الكثير من الاحتكار في عام 1774 على هذه الولايات، ولم يكن قد مضى على انعقاد هذا المؤتمر في 5 سبتمبر 1774 سوى بضعة شهور.
أما المقاومة الفلسطينية التي تمثلها «حماس» الآن والتي حازت أغلبية مقاعد المجلس التشريعي في الانتخابات التي جرت إبان رئاسة كلينتون للولايات المتحدة الأميركية، فقد صبرت أكثر من 75 عاما على الاحتلال الإسرائيلي وقوانينه الظالمة والتي جردت الفلسطينيين من آدميتهم وإنسانيتهم في ظل أبشع أنواع الاحتلال في تاريخ البشرية كلها.
وأختتم هذا المقال بأن الحرب على غزة وتوابعها في لبنان واليمن وسورية وإيران إنما هي حرب بالوكالة عن الإمبريالية العالمية بترسانتها العسكرية جواً وأرضا وبحرا ضد الشعب العربي والأمة الإسلامية وهو ما سنعرض معه جوانب لهذه الحرب في بقية من حديث إن كان في العمر بقية.